كنت قد قرأت احتجاجا ، صدر عن جمعية العلماء ، تتعجب فيه من رسالة بعثتها إدارة الفيسبوك ، تخبرها وتؤكد لها ، بأن خريطة فلسطين المنشورة على صفحتها ، تعد انتهاكا لقوانين النشر في الفيسبوك ، واعتداءا صارخا على دولة الكيان الصهيوني " إسرائيل " .. فسارعت لكتابة رد على الساخن .. ولطارئ طرأ ، ومانع سبق ، تركت مسودة المقال جانبا ، ثم نسيتها لاحقا .. ولأني عادة ما أرجع إلى أوراقي أقلبها وأنظر في محتواها ، وجدت هذا المكتوب مطويا منسيا ، ينتظر ساعة الظهور ، والخروج إلى النور .
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا﴾
ربما يجتهد الإنسان في فعل الصواب فيقع في الخطأ .. وربما يجتهد الإنسان في فعل الخطأ فيقع في الصواب .
وقد يخطأ المؤمن الخيّر ، ونيّته الإحسان وفعل المعروف .. وقد يصيب الكافر الشرّير ، وقصده الإساءة وفعل المنكر .
ومعلوم في دين الله وشريعته ، أن من قصد الخير والصواب صادقا فأخطأ ، لا يؤثم بل يؤجر ، لنيته الحسنة وقصده النبيل .. كما هو معلوم في دين الله وشريعته ، أن من قصد الشر والخطأ متعمدا ، فوقع في الصواب ، آثم لا محالة ، لخبث نيّته وفساد مقصده .
﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ * وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ * وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ ۖ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾
إن جمعية العلماء المسلمين ، هي منظمة دعوية ثورية وطنية جزائرية .. تأسست في ظروف استثنائية ، كانت فرنسا الاستعمارية قد قطعت خلالها شوطُا كبيرا ، في مُحاولتها العَبثيِّة ، التي تهدف إلى تغيير دِين الجزائريين ، وطمْس لغتهم ، ومحْو هويتهم ، وترسيم الجزائر الفرنسية إلى الأبد .. في تلك الظروف العصيبة الدامية ، والسنوات العِجاف القاسية ، خرجت الجمعية إلى الوجود ، تقودها كوكَبة من العلماء ، برئاسة الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس رحمه الله ، ترفع شعارا واضحا وضُوح الشمس في كبِد السماء .. الإسلام ديننا ، العربية لغتنا ، الجزائر وطننا .. شعار حدَّدت على أساسه أهدافها ، واختارت على ضَوئه طريقها ، فتفرَّغت لتعليم أبناء الشعب وتربيتهم ، وحماية قيم الأمة وثوَابتها ، ثم تجندَّت في سبيل الله ، دفاعا عن القضايا العادلة للشّعوب المظلومة ، واسترجاع حقوقهم المغصوبة .. وفي مقدمة هذه الشّعوب ، الشعب الجزائري والشّعب الفلسطيني الشّقيق ..
إن اليهود المتصهينين ، الذّين حرفوا التوراة وحي ربّهم ، وكذبوا على أنبيائهم ، وشوَّهوا سُمعة أهل الكتاب ، بالأخلاق السيّئة ، والأفعال المشينة ، والمؤامرت الدنيئة .. قد أفسدوا دينهم وطغوا طغيانا كبيرا .. ولو أن سيدّنا موسى عليه السّلام حيٌّ يُرزق ، لكان قد تبرّأ منهم وممّا يقولون ويفعلون ، ونهاهم نهْي أهل المعروف لأهل المنكر ، وخاصمهم مُخاصمة دعاة الخير لدعاة الشّر ، وقاتلهم قتال أتباع الحقّ لأتباع الباطل .. فما ذنب رجال جمعية العلماء وغيرهم من الأحرار في هذا العالم ، إذا انتصروا للحق وأنكروا الباطل ، ووقفوا في وجه الظالم دفاعا عن المظلوم ، وشهدوا شهادة صدق ، أمام الله وأمام التاريخ تَبرِئة لذمتهم ، وقالوا أن دولة إسرائيل من بني صهيون ، دولة إستعمارية غَاشمة ، احتلت أرضا بالحيلة والمكر والقوة ، وطردت شعبا من وطنه وشرّدته تشريدا .
أمّا اليهود الذّين لم يتصهينوا ، واجتهدوا في اقتفاء أثر سيدنا موسى ، يوحدون إلاههم ، ويعبدون ربّهم ، ويعملون بتعاليم نبيّهم ، ولا يفسدون في الأرض ولا يعتدون ، فقد أمِنوا على أنفسهم وأموالهم ، في فلسطين وفي غيرها ، أين جاوروا إخوانهم من المسلمين والنّصرانيّين ، طوال قرون عديدة ، وعاشوا معهم جنبًا إلى جنبٍ ، في وطن واحد ، يشتركون في السّرّاء والضّرّاء ، ويتقاسمون المَغنَم والمغرَم ، لا يبغِي بعضهم على بعض ، بل يتعاونون على البرّ والتّقوى ، ولا يتعاونون على الإثم والعدوان ..
إنّ العالم ليعلَم ، و إنّ التاريخ ليشهَد ، أنّ دولة الكيان الصّهيوني ، لم يكن لها وجود في خريطة العالم قبل 11ماي1949م ، وهو التّاريخ الذي إعترفت فيه الأمم المتحدة بدولة إسرائيل .. تم ذلكِ بعد ما استطاع الصّهاينة عبر الزمن الطويل ، أن يتموَقعُوا داخل مفاصِل الدول الصّليبية الكبرى ، ويؤثروا في قراراتها ، " بريطانيا ، أمريكا ، فرنسا ، وحتى روسيا " ، الأمر الذي سهّل عليهم إنشاء الكيان الصّهيوني ، الذي كان عبارة عن شَتاتٍ غير متجانس ، جاءوا به من مختلف بلدان العالم ، واستوطنُوه أرض فلسطين ، إبَّان الاستعمار البريطاني لِأُولىَ القِبلتين وثالِث الحرمين .. ولكي تكتمل المؤامرة ، وترتبط حلقاتها ، فقد تنازلت بريطانيا لهذا الكيان الدَّخيل ، ليبدأ مسيرة جديدة ، في احتلال فلسطين واغتصابها ، وقتل الشعب الفلسطيني وقهره وتشريده .. والقصة كما تعلمون طويلة ...
ورغم أن الأمم المتحدة ، لم تعترف بإسرائيل ، إلا بشرط الإلتزام التام بالقرارات التي تُصدرها ، إلا أن الكيان الصهيوني ، ضرب بهذا الشرط عَرض الحائط ، وفعل عكس ذلك تماما ، وتمرد على كل القرارات التي أعادت للفلسطينيين بعض حقوقهم ، كقرار عودة اللاجئين ، وقرار التقسيم الأول .. لماذا ؟ وكيف حدث ذلك ؟! الجواب ما قاله الأقدمون ، " إذا عُرف السبب بطل العجب " ..
ذلك أن أمريكا ، كانت ومازالت وستبقى ، إلا أن يشاء الله ، هي القوة الأولى التي تستميت في الدفاع عن إسرائيل .. ولأنها تملك حق الفيطو في مجلس الأمن ، فقد سهل عليها تجميد وتعطيل وعرقلة ، كل قرارات الأمم المتحدة ، التي أصدرتها لصالح الفلسطينيين ، استجابة للنداءات التي كانت ترتفع من كل أنحاء العالم ، أو عقابا للكيان الصهيوني ، على أفعاله الإجرامية الإرهابية ضد المدنيين العزل ، ومخططاته التوسعية في أرض فلسطين .
نعم .. هذا ما فعلوه ، وهذا ما يفعلونه ، وما تخفي صدورهم أكبر .. فلماذا العجب إذن ، وأين الغرابة ؟ إذا خرجت علينا إدارة الفايسبوك اليوم ، لتحذر وتهدد جمعية العلماء ، بسبب نشرها لخريطة فلسطين الحقيقية ، التي يشهد على صحتها التاريخ !.. وأنتم تعلمون كما يعلم غيركم ، بأن الفايسبوك مؤسسة أمريكية ، وأمريكا يسيرها اللوبي الصهيوني العالمي ، وهي تعلن هذا سرا وجهارا ، وتنصر إسرائيل ليلا ونهارا .. لا تخاف في ذلك لومة لائم ، ولا انتفاضة شعب مجروح ثائر .. لأن بعبع الإسلام في أوطانه ، مكَبل ، مقهور ، مسجون ، نائم .
﴿ وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِير﴾
هذه هي الحقيقة .. وإن كانت مرة كالعلقم ، ومؤلمة كالكي .
ولأن الكي والعلقم ضروريان لشفاء الأمراض المستعصية .. فإن معرفة الحقيقة ، وإن كانت صادمة وجارحة ، هي الخطوة الصحيحة الأولى ، على درب التصحيح والتغيير نحو الأفضل ..
نعم .. من حقنا وواجبنا في آن ، أن نجهر بقول الحق ، ونصدع بكلمة الصدق ، ونقول للمحسن أحسنت ، وللمسيئ أسأت .. ومن حقنا وواجبنا ، أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونجاهد في سبيل الله ، دفاعا عن بيضة الإسلام ، ودودا عن حياظ الأمة ، ونصرة للحق وأهله ، وحربا على الباطل وجنده ..
لكن ، يجب أن نضع نصب أعينِنا ، أن الحق المعروف ، ما عرّفه الإسلام وأثبته ، و أن الباطل المنكر ، ما أنكره الإسلام وأبطله .
لهذا .. ليس أمامنا نحن المسلمين ، إلا أن نتوب إلى الله توبةً نصُوحا ، ونعود إلى دين الإسلام عودة صادقة ، ونطهر قلوبنا من الأحقاد والأضغان ، والعداوات التي لا معنى لها ، ونمسح من عقولنا الأفكار التافهة ، والتصورات الخاطئة ، والأحكام التي ما أنزل الله بها من سلطان .. ثم نتفرغ لتربية الناشئة وبناء الأسر ، وتعليم الأبناء وتكوين النخب ، والتعاون على بناء الدولة وحمايتها ، بدلا من التنافس في زعزعة أمنها ، وتدمير ما أنجز فيها .. وبالإيمان والعلم ، والجهد والوقت ، والمثابرة والصبر ، نقيم دولة الحق والقانون ، المتحصنة بدينها الصحيح ، القوية بشعبها السيد ، الآمنة بحكمها العادل ، الفاضلة بمجتمعها المستقيم ، المباركة برضا الله رب العالمين .
... وفي انتظار ساعة الفرج المَأمُولة ، وعودة أيام الجد والعمل المقبولة ، التي تطهر فيها قلوبُنا ، وتكبر فيها نفوسُنا ، وتنضج فيها عقولُنا ، ويستقيم بعدها أمرُنا .. إلى ذلكم الحين .. دعونا نعيش على الذكرى ، والذكرى تنفع المؤمنين ، وتقوي إيمانهم .. وفي رائعة الشاعر محمود غنيم ، رحمه الله ، ما يثلج الصدر ، ويشحَد الهِمم ، ويقوِّي العزم ، على مواصلة الدعوة إلى الله ، والعمل في سبيل الله ، والنضال من أجل القضية .. قال رحمه الله ، وأسكنه فسيح جناته :
إنى تذكرتُ ـ والذكرى مُؤَرِّقةٌ | مجداً تليدا بأيدينا أضعناه |
ويحَ العروبة ! كان الكونُ مسرحها | فأصبَحت تتوارى في زواياه |
أنَّى اتجهت إلى الإسلام في بلد | تجدْهُ ـ كالطير ـ مقصوصاً جناحاه |
كم صرفَتْنَا يدٌ كنّا نصرِّفها | وبات يملكنا شعبٌ ملكناه |
هل كان دِيْن ابنِ عدنانٍ سوى فلق | شق الوجود، وليلُ الجهل يغشاه ؟ |
هي الحنيفةُ عينُ اللـه تكلؤها | فكلما حاولوا تشويهها شاهوا |
* * *
هل تطلبون من المختار معجزةً؟ | يكفيه : شعبٌ من الأجداث أحياه |
مَنْ وحد العرب حتى كان واترهم | إذا رأى ولَدَ الموتور آخاه ؟ |
وكيف كانوا يداً في الحرب واحدة | مَن خاضها باع دنياه بأخراه ؟ |
وكيف ساس رعاةُ الإبْل مملكة | ما ساسَهَا قيصرٌ من قبلُ أو شاه ؟ |
وكيف كان لـهم علم وفلسفة ؟ | وكيف كانت لـهم سُفْن وأمواه ؟ |
سنُّوا المساواة : لا عُرْبٌ ، ولا عجَمٌ | ما لامرئ شرفٌ إلا بتقواه |
* * *
ورحبَّ الناسُ بالإسلام حين رأوْا | أنَّ السلام وأن العدل مغزاه |
يا من رأى عُمراً : تكسوه بردتُه | والزيتُ أدْمٌ لـه والكوخُ مأواه ؟ |
يهتز كسرى على كرسيِّه فرَقاً | من بأسه وملوكُ الرومِ تخشاه ؟ |
سل المعاليَ عنا إننا عَرَبٌ | شعارُنا : المجدُ يهوانا ونهواه |
هي العروبة لفظ إن نطقت به | فالشرق ، والضاد ، والإسلام معناه |
استرشد الغربُ بالماضي ، فأرشده | ونحن كان لنا ماضٍ نسيناه |
* * *
باللـه سل خلف بحر الروم عن عرَبٍ | بالأمس كانوا هنا ما بالهم تاهوا ! |
فإن تراءتْ لك الحمراء عن كَثَب | فسائل الصرحَ : أين العز والجاه ؟ |
وانزلْ دمشق وسائل صخر مسجدها | عمن بناه لعل الصخر ينعاه |
وطُف ببغداد وابحث في مقابرها | علَّ امْرأً من بنى العباس تلقاه |
أين الرشيد وقد طاف الغَمامُ به | فحين جاوَز بغداداً تحداه ؟ |
هذى معالم خرسٌ كلُّ واحدة | منهنَّ قامت خطيبا فاغراً فاه |
* * *
إني لأعتبر الإسلام جامعة للشرق | لا محض دين سنه الله |
أرواحنا تتلاقى فيه خافقة كالنحل | إذ يتلاقى في خلاياه |
دستوره الوحي والمختار عاهله | والمسلمون وأن شتوا رعاياه |
ماضٍ تعيش على أنقاضه أمَمٌ | وتستمدُّ القوى من وحى ذكراه |
اللَّهُمَّ ، قد أصبحت أهواؤنا شيعا | فامنُنْ علينا براع أنت ترضاه ! |
راع يعيد إلى الإسلام سيرتَهُ | يرعى بنيه وعينُ اللـه ترعاه |
اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رشدا ، يعز فيه وليك ، ويذل فيه عدوك ، ويحكم فيه بأمرك ... آمين
مدني مزراق