مواقف وعواطف

نُشرت هذه المقالات الثلاث في 2003 كلٌّ في مناسبتها.

إذا كانت طباع اللؤم والنذالة والحقارة هي من تدفع أصحاب النفوس المريضة، والعقول الصغيرة، والحسابات الضيقة إلى التنكر والكذب والبهتان، فإنّ الدين والمروءة يفرضان على المؤمنين تحري الصدق، وشهادة الحق، مع الصديق والعدو.

بسم الله الرحمن الرحيم

ما أشبه اليوم بالبارحة

وجدتنا مجبرين على الاستمرار في نشر بعض الوثائق التي تعبر عن مواقف للجيش الإسلامي للإنقاذ من سنوات خلت، وصلت فيها الأزمة الجزائرية إلى ذروتها.

ولأنّ الوثائق المذكورة , تحتوي على تصورات اعتقدناها ، ولازلنا بها مؤمنين ومقتنعين ، رأينا أنّه من حق الجزائريين جميعا على اختلاف مشاربهم ومواقعهم أن يطّلعوا عليها. فلربّما فرح الصّديق بذلك ، وأنصفنا الخصم، وأقيمت الحجّة على العدوّ.

ولأنّنا كتبنا ما كتبناه صادقين ، لا نبتغي من ورائه إلاّ وجه ربّنا ، وإنقاذ وطننا ، والخير والفلاح لشعبنا. فقد شهدت لما كتبنا الأيّام ، وبقي غضّا طريّا ،كأنه لم يعرف الحياة إلا السّاعة.

..فماذا دهى الاستئصاليين حتّى يصرّوا على تمزيق الوطن وإفناء الشعب ؟

وما الذي أصابهم حتّى يُضمروا كل هذا الكره والعداء لدينهم وبلدهم وبني جلدتهم ؟

ما بالهم يهرعون إلى إشاعة البلابل، وإثارة الفوضى والقلاقل كلّما لاح بصيص من الأمل، وبرقت لنجاة ما تبقّى من هذا الشعب والوطن ومضات ؟

ما بالهم يسارعون بدقّ طبول الحرب كلما أيقنوا أنّ بَرَرَةً بالجزائر قد عزموا على وضع حدّ للمؤامرات، والمضيّ في المصالحة كحلّ نهائي لمختلف الأزمات ؟

أما آن لهم أن يتراجعوا عن غيّهم، ويتوقّفوا عن تآمرهم وإجرامهم.

أما آن لهم أن يفكّروا في مصير أبنائهم وذويهم فيتصالحوا مع شعبهم قبل أن يدور التاريخ دورته ويطالب المستضعفون بالعدالة والقصاص.

أما آن لهم أن يتقوا الله وينصفوا المظلومين من أنفسهم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال.

إنّنا نناديهم بالصّوت العالي والفم الملآن، أن تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، وأن لا نرضى بغير الإسلام دينا، وبغير العربية لغة، وبغير الجزائر وطنا وأهلا، وأن نجتمع على حماية الوطن بالحق، وخدمة الشعب بالعدل، وإشاعة الأمن والفضيلة بين النّاس.

وصدق الله العظيم ...

 ﴿ إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكّرون﴾

مدني مزراق


كلمة عند خروج الشيخين من السجن

بسم الله الرحمن الرحيم

أخيرا تجلّت الحقيقة .. وتمّت كلمة ربّك صدقا وعدلا .. وعرفنا حكم القضاء والقدر ، في قضية إطلاق سراح الشيوخ التي شغلت النّاس طويلا.. أعداءً وأصدقاءً ومهتمين..

واليوم .. يفرح الخيرون في مختلف المواقع بالفرج الذي منّ الله به ، والأمل الذي فتح بابه سبحانه ، والعرس الذي سيخفف عن الشعب الجزائري آلاما وأحزانا..

هي إذن .. انثى عشرة عاما كاملة .. مرّت على ذوي الضمائر الحيّة من أبناء الشعب الجريح، بدمائها، ومصائبها، وفجائعها، كأنها الدهر بكلاكله.. صدَقوا الله فيها، وأحسنوا الظن ، فحق لهم أن ينتظروا وعده ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾

.. ومرت على أهل الشر والمعاصي والغفلة , الذّين ركنوا إلى الدّنيا وغواياتها ..كيوم وليلة .. أمسوا في ذات يوم من سنة 91م , وقد نفضوا أيديهم مطمئنين , من تيار مصلح , نغص بنور الدّعوة عليهم حياتهم المظلمة ..

وأصبحوا في يوم من سنة 2003 , وقد بزغ الفجر من جديد , إيذانا بطلوع شمس الحق ، فهم يعضون أصابعهم من الغيض، وأنفُسهُم حسرات .. وصدق الله العظيم ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا﴾

غير أنّه , وبعد كلّ الذي وقع , نحسب أنّ هؤلاء وأولئك ,قد قرأوا الدّرس وفهموه، واعتبروا من الأحداث واستفادوا .. وكأننا بهم قد عقدوا العزم على فتح صفحة جديدة، يتجاوزون فيها الماضي وما خلّفه من مآس وآلام ولا يتناسوه، ويستقبلون الآتي وما يحمله من فرص وآمال ، شعارهم قوله عزّ و جل ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ وأن يساهموا جميعا في بناء جزائرالحق والعدل.. جزائر المحبة والإخاء .. جزائر العلم والإزدهار ..

.. فاللهم ألهِمِ الجميع الهداية والسداد والرّشاد، وارزقهم البصير والتعقل والأناة، وجنّبهم العجلة والإرتجال، والشطط وسوء التدبير .. واجمع اللهم أبناء الجزائر على كلمة سواء، وأمر رشد، تعزّ فيه أهل الخير , وتذل فيه أهل الشر.. وترسي سفينة الجزائر على شاطئ الأمن والأمان والإيمان ..

قاوس في 02 / 07 / 2003 م

مدني مزراق


بعد خروج الشيخين

بسم الله الرحمن الرحيم

صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة

صبرا أهل الحق , فإن طريقكم طويل.. وهدفكم كبير .. وقائدكم محمد سيد المرسلين.. و الله وليكم و مولاكم .. فنعم المولى و نعم النصير .

صبرا .. أهل الإيمان والطاعة والذكر.. فإن الله قد كتب في الزّبور من بعد الذكر ﴿ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ﴾

.. صبرا أهل النية الحسنة ، والإخلاص الصّافي , والسعي المشروع ، والغاية النبيلة .. ولا ينالنّ من عزيمتكم وإرادتكم ، وتمسككم بدينكم وثقتكم في ربكم , قوم , قد ملأوا البلاد ظلما وحيفا , ومنكرا وكذبا وزورا. ركبوا رؤوسهم , فأطلقوا أحكاما جائرة ، فضّلوا فيها , من تسلّط على رقاب الشعب ظلما , وتنكّر لأحكام الدّين جهرا ، وداس الثوابت والقيم نكاية ، وقامر بخيرات الوطن ومصيره عمالة... على من سعى في سبيل الله وهو مسلم محسن، لدفع الضرر عن المستضعفين، إحقاقا لحق وإبطالا لباطل. وسبحان الله العظيم القائل ﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾

أقول هذا ..بعد الذي سمعته , ممن يسمّونها اليتيمة , وهي تبث قائمة الممنوعات , التي لغّم بها النظام حياة الشيوخ الدعوية والسياسية , بعد خروجهم من غيابات السجن.. فتقول المذيعة عن الشيخين , المسمى فلان والمدعو علّان، وكأنهم يتحدثون عن نكرات لدى الرأي العام الوطني والدولي.

.. وسرحت بخيالي بعيدا ، وتصوّرت , لو أنّ الحدث هو إعلان عن وفاة الشيخين –أطال الله في عمرهما وحسّن أعمالها ونفع بهما..لخرجت علينا المذيعة وهي كلها تأثر و حماس، تنعى إلى الشعب الجزائري خاصة والأمة السلامية عامة نبأ الوفاة قائلة:

.. تلقّت السلطة الجزائرية , ومن ورائها الشعب الجزائري المسلم ببالغ الحزن والأسى، الفاجعة الأليمة التي ألمت بالجزائر خاصة و بالمسلمين عامة ، وهي نبأ نهاية أجل الشيخين الفاضلين والعالمين الجليلين ، الدكتور المجاهد عباسي مدني، وابن الشهيد الأستاذ علي بلحاج رحمها الله تعالى.

... أما الأول ، فقد ولد في مدينة بسكرة ببلدية سيدي عقبة مثوى الصحابي الجليل والفاتح العظيم عقبة بن نافع رضي الله عنه.

  • قرأ القرآن وتعلم العربية والفقه.
  • شارك مبكرا في الحركة الوطنية.
  • من القلائل الذين سبقوا إلى تفجير الثورة المباركة.
  • كان مسؤولا مع إخوانه عن وضع القنابل في مقر الإذاعة , العمل الذي تسبب له في دخول سجن الاحتلال إلى غاية الاستقلال .
  • ناضل في صفوف جبهة التحرير الوطني إلى غاية 72م .
  • كان عضوا بارزا في جمعية القيم التي شكلت الامتداد الطبيعي لجمعية العلماء المسلمين.
  • كانت له الإرادة والعزيمة الكافيين لإتمام الدراسة في إنجلترا حتى تحصل على شهادة الدكتوراه.
  • عمل استاذا محاضرا في الجامعة الجزائرية فكان له الفضل في تكوين وتوجيه الكثيرين .
  • اشتغل بالعمل الدعوي طويلا , فألقى دروسا و محاضرات في مساجد الجزائر ومنابر العلم في النوادي و الجامعات، كان ينتصر فيها للطرح الإسلامي الوطني، على حساب الفكر اللائكي التغريبي الإلحادي.
  • أسّس مع إخوانه الدعاة إلى الله، الشيخ احمد سحنون، الشيخ محفوظ نحناح، الشيخ محمد السعيد، الشيخ عبد الله جاب الله، الشيخ علي بلحاج وآخرين .. رابطة الدعوة الإسلامية.
  • أسّس مع مجموعة من إخوانه الدعاة .. الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وعاشوا مع الشعب الجزائري أحداثا كبيرة , من تجمعات ومسيرات سياسية , إلى أعمال خيرية و إنجازات نضالية وملتقيات دعوية كان أهمها:
  1. الفوز الساحق في الانتخابات البلدية والولائية سنة 90م
  2. الأسواق الإسلامية كتجربة نوعية
  3. الإضراب المشهود في شهر ماي 91م
  4. الفوز الساحق في الانتخابات البرلمانية سنة 91م
  5. المجهود الكبير الذي بدلوه في حل الأزمة العراقية الكويتية بتنقلاتهم المكوكية بين الرياض وطهران وبغداد حيث التقوا قادة العواصم المذكورة بغية حقن دماء المسلمين.
  6. الإعانات الضخمة التي جمعت لصالح إخواننا في العراق والإصرار على نقلها بأي طريقة.

... أما الثاني فهو نسيج وحده، وغريب عصره .. ابن شهيد ، تربى يتيما في العاصمة ، حيث حفظ القرآن وتعلم على أيدي الشيخ العرباوي والشيخ عبد اللطيف سلطاني وغيرهما .. كما تلقى التعليم الإبتدائي فالمتوسط فالثانوي ، ثم عمل استاذا في مادة الأدب العربي.

عُرف بزهده وورعه وتضحياته الكبيرة في سبيل الدعوة إلى الله..

تنقل كثيرا بين مساجد العاصمة وألقى دروسا كثيرة في الفقه والسيرة والتفسير ، كان صادقا وجريئا , مما جعل الذّين يأمّون المساجد يتأثّرون بمواعظه ويعملون بإرشاداته..

وبالمختصر المفيد ..كان من العوامل القوية و المهمة في تغير وجهة المجتمع العاصمي خاصة والجزائري بدرجة عامة ، من الإتجاه التغريبي نحو الصحوة الإسلامية المباركة.

شاركَ الشيخ عباسي مدني في كل الإنجازات منذ اجتماعهما في قيادة مسيرة 5 أكتوبر التاريخية التي كانت سببا في تغيير الدستور , والترخيص لأول مرة , بإنشاء جمعيات ذات طابع سياسي، مع فتح المجال للتعددية الإعلامية..

نعم .. هذا قليل من كثير في حياة الشيخين ..

فحقٌ على التيار الإسلامي , أن يعترف لهم بالفضل لما قدّموه في الساحة الدعوية من مجهودات ، وكذلك جرأتهم في النزول بالمشروع الإسلامي إلى الشارع الجزائري , وشجاعتهم في خوض أول تجربة سياسية إسلامية في الجزائر بنجاح.. أجهضها أعداء الله المقامرون , والخونة المتآمرون , و النصابون السياسيون , فجعلوها عقابا ووبالا على الجزائريين ..فحسبنا الله ونعم الوكيل .

وحق على التيار الوطني , أن يحييهما احتراما وإكبارا لتمسكهم بالجزائر شعبا ووطنا، وانتمائهم إلى الأسرة الثورية، ورفضهم لتدويل القضية الجزائرية ، وإذعانهم للأحكام الجائرة المجحفة في حقّهما ، رحمة بالشعب الجزائري ، وإنقاذا للجزائر.

وحقٌ على الديمقراطيين , أن يهتفوا بأسمائهم على تضحيتهما في سبيل الحرية، إذ كانا الرقم القوي الفاعل في التمكين للديمقراطية في بلادنا، وفرض التعددية الحزبية، وفتح الباب الإعلامي على مصراعيه , لكل من يمدحهم ويشكرهم حقا أو يذمهم ويشتمهم باطلا، خاصة في هذه الأيام..

... وكم تمنيت , بعدما استفقت من غفوتي ..ومن حقي أن أتمنى .. وما تحقيق مناي على الله بعزيز.. أن يتعوذ أصحاب القرار من الشيطان الرجيم . ويعترفوا لهم بحقوقهم الوطنية، ويستفيدوا من استعدادهم القوي للمساهمة في وقف النزيف الدموي , وتحقيق الأمن والإستقرار، ويتعاونوا جميعا، سلطة ومعارضة على النهوض بالجزائر نحو العافية والرقي، بعدما غرقت في بحر الصراعات القاتلة، والكوارث العقابية والأمراض الفتاكة والإنحطاط المبرمج.

اللهم احفظ الجزائر.. ودين الجزائر ..وشعب الجزائر.. آمين.

يوم 05 / 07 / 2003م

مدني مزراق