تعزية الشيخ مصطفى لعبودي

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿ إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِيَتۡ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِيمَٰانٗا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ يَتَوَكَّلُونَ ، ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ ، أُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ حَقّٗاۚ لَّهُمۡ دَرَجَٰتٌ عِندَ رَبِّهِمۡ وَمَغۡفِرَة وَرِزۡق كَرِيم ﴾

المسلمون يذنبون .. لكنهم إلى الله يتوبون .. وليس كل مسلم مؤمنا ، وليس كل مسلم محسنا .

والمؤمنون يخطئون .. لكنهم إلى الحق يعودون .. والمؤمن مسلم بالضرورة ، وليس كل مؤمن محسنا .

والمحسنون يبتلون .. لكنهم على البلاء يصبرون .. وكل محسن مؤمن ، وكل محسن مسلم .

والمسلم .. من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، وحج البيت إن استطاع إليه سبيلا .. وربما لم يبلغ درجة الإيمان .

والمؤمن .. من آمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والقضاء خيره وشره .. وربما لم يبلغ درجة الإحسان .

والمحسن .. من عبد الله كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه .

لن أكون مدعيا أو مجاملا أو مبالغا ، إن قلت ، أن أخي الشيخ مصطفى العبودي ، كان مسلما ، وكان مؤمنا وكان محسنا .. أحسبه كذلك ولا أزكي على الله أحدا .. فقد علم يقينا ، أن في الإسلام ، الدين والدولة ، والرسالة والدعوة ، وصلاح الدنيا وسعادة الآخرة ، فعاش بالإسلام وللإسلام ، مؤمنا عابدا مجاهدا .. دعا الناس بلسانه خطيبا في المساجد والمحافل ، ونصر الحق بقلمه في الكتب والصحف والرسائل ، وقاوم صابرا ظلم الظالمين ، حرا ومطاردا ومعتقلا ومقيدا في السلاسل .. وثبت على طريق الحق صابرا ، راضيا بقضاء الله وقدره ، إلى أن وافته المنية ، فانتقل إلى الرفيق الأعلى ، يوم الخميس الفارط الخامس من شعبان 1442 هـ ، الموافق للسابع عشر من مارس 2021 م .. جعلنا الله وإياه ، من الذين آمنوا ، والذين صبروا ، والذين اتقوا ، والذين هم محسنون ... إنا لله وإنا إليه راجعون .

.. اللهم إن عبدك مصطفى لعبودي ، كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه وإن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته ، اللهم لاتحرمنا أجره ولاتفتنا بعده ، واغفر لنا وله ولجميع المسلمين .. اللهم وسع مدخله وأكرم نزله وتقبله في الصالحين ، وعافه واعف عنه واجعله في أعلى عليين ، واحشره يارب في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .. وارزق اللهم أهله وذويه الصبر والسلوان ، وحلاوة الإيمان ، والثبات على طريق الإسلام ... آآآميين .

... ولأن المؤمنين إذا ظُلِموا لا يحقدون ، وإذا خاصموا لا يفجرون ، وإذا قاتلوا لا يعتدون ، وإذا صالحوا لا يغدرون .. وكان قتالهم قتال الرجال الشرفاء ، وصلحهم صلح الشجعان الأصلاء .. لهذا أعتقد ، أن هذا البيان الذي نشر ناه في 2012 م ، يصلح تماما ، ليكون عزاءا لأهل الفقيد ، ولكل رفقاء الدرب الصادقين .

بسم الله الرحمن الرحيم

باسمك اللهم نستفتح ونبدأ ، و بتوفيقك نقول ونكتب ، و بقدرتك نصول و نجول ... فيسر اللهم الأمور ، و اشرح الصدور ، و احلل عقدة من اللسان ، يفقهوا الكلام ، و يفهموا المرام ..

يا أبناء الشعب الجزائري المسلم .. يا أوفياء الجبهة الإسلامية الثابتين .. يا رجال الجيش الإسلامي الصادقين .. يا أصحاب المروءة والوطنية .. يا جنود الحق وصناع السلام .. يا أهل الصلح والمصالحة والوئام .. حياكم الله وبياكم ، وجعل الجنة متقلبكم ومثواكم .

أنتم يا من صلى وصام .. وزكى وقام .. وأقبل على الله مستغفرا ذاكرا ، وحامدا لأنعمه شاكرا .. دعوتم إلى الله على بصيرة ، وبلغتم رسالته عن بينة .. ووصلتم إلى قلوب الناس ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، وإلى عقولهم ، بالكلام الجامع والدليل القاطع ، والحجة الدامغة .. فهُديتم وهديتم .. وصلحتم وأصلحتم .. ونصرتم دين الله ، فنصركم على أنفسكم وغواياتها ، وأبطل كيد الشيطان الرجيم وشركه ، وقهر أعداء الحق وأشياعهم .

... نخاطبكم اليوم .. مستعينين بالله ، طامعين في كرمه ، أن يجعل ما يخطه القلم ، نورا ساطعا ، ودواء نافعا ، وحقا دامغا ..

نور ، يبدد ظلمة العقول .. ودواء ، يشفي الصدور .. وحق ، يدمغ الباطل ، ويفسد سحر الساحر ، ومكر الماكر ، ويثبت القلوب على صراط الله القائل :

﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾

أيها الشرفاء .. لستم ممن أخطأوا الطريق أو ضلت بهم السبل .. فقد هداكم الله بالإسلام ، وشرح به صدوركم .. بل أنتم مؤمنون صادقون ، سمعتم داعي الله ينادي .. فلبيتم .

﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴾ .

ولستم بالمجرمين ولا بالإرهابيين .. ولن تكونوا كذلك أبدا ، مادام الإيمان يملأ قلوبكم .. بل أنتم غيورون شجعان ، قرأتم نصيحة الله لعباده .. فسمعتم و أطعتم .

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ .

ولستم " بالتائبين " ، كما يروّج خصومكم وأعداؤكم .. فقد كفرتم بالجبت والطاغوت ، وآمنتم بالله ورسوله .. وكنتم الرجال ، يوم عزّ الرجال ..

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ .

و لأنكم فطرتم على الإسلام ، ونشأتم على حب الخير والسلام ، ودأبتم على التنافس في العمل الصالح واستباق الخيرات .. فقد اخترتم عن إيمان وبصيرة ورضا ، الانحياز إلى فئة الله ورسوله ، طائعين مؤمنين ، صابرين محتسبين .. و صابرتم ، فثبّتكم الله على الحق مع أهل الحق ، وصَدَقتُم ، فأعانكم على الصدق ، ووفيتم ، فكنتم أهل الوفاء ، وضحيتم ، فكنتم أهل البدل والعطاء .. أنتم الذين لم تندموا ولن تندموا أبدا ، على قليل أو كثير ، رخيص أو نفيس ، قدّمتموه في سبيل الله .. أنتم الذين سعيتم سعي الصادقين ، ورجوتم أن تكونوا ممن قال فيهم الله عز وجل :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ * ... ﴾ .

... أنتم الذين فكرتم وقدرتم ، واستشرتم واستخرتم ، حتى إذا تبينتم الرأي و تجلى لكم الحق ، عزمتم فتوكلتم على الله ، وقرّرتم قراركم ، وحدّدتم وجهتكم ، واخترتم مصيركم ، متسلّحين بالنية الحسنة ، والإخلاص الصافي ، والزهد في الدنيا وزينتها ، والطمع فيما عند الله ، وما عند الله خير وأبقى لعباده الصالحين .

أيها الرّجال .. يا أهل الغيرة و المروءة ..

لقد عشنا وإياكم أعوام الدعوة إلى الله صابرين محتسبين ، لم يكن لنا فيها من غاية إلا طاعة الله ورضاه ، ووعظ الناس وإرشادهم ، وهدايتهم إلى صراط الله المستقيم .. فاتُّهِمنا بالبطلان ، وجُررنا المرة بعد المرة ، إلى مخافر الشرطة والدرك ومكاتب التحقيق ، ليُلقى بنا في غياهب السجون ، ظلما وعدوانا ، بغير ذنب اقترفناه ، أو جُرم أتيناه ، إلا أن جَهَرنا بالحق وقلنا ربّنا الله .. ورغم الزور والبهتان والطغيان .. لم نَثُر ، ولم نرفع السلاح في وجه أحد ، رغم أن القهر قد أفتى ، والجور وقَّع لردع الغاصبين المعتدين .

.. وبالصبر تجمّلنا.. فصبرنا ، وصبّرنا ، واصطبرنا .. إلى أن أذن الله وجاء عهد الانفتاح و التعددية ، فاستبشرنا خيرا ، وصدّقنا كذبة اللعبة الديمقراطية ، وانخرطنا في العمل السياسي ، واحتكمنا إلى صناديق الاقتراع ، منتهجين الأساليب السلمية ، طمعا في تحقيق الحلم المفقود ، وإقامة الدولة الإسلامية .. الدولة الإسلامية التي لم تكن تعني لأغلبنا ، غير تجسيد المشروع المجتمعي ، الذي ضحى من أجله الآباء والأجداد ، ولخّصه شعار ابن باديس الخالد .. الإسلام ديننا .. والعربية لغتنا .. والجزائر وطننا .. وأكده وفصل فيه شهداء ثورة نوفمبر المجيدة ، بحرصهم وإصرارهم ، على إقامة دولة جزائرية مستقلة ذات سيادة ، ديمقراطية واجتماعية ، ضمن إطار المبادئ الإسلامية .

.. ولقد شهدتم وشهد العالم .. كيف صفع الشعب الجزائري المسلم السيد ، دعاة المسخ والتغريب والتبعية لفرنسا الاستعمارية ، وأشهر البطاقة الحمراء في وجوههم .. وكيف وقف إلى جانبنا عن طواعية ورضى ، و ناصرنا وقَبِل المشروع الذي عرضناه عليه ، في ثلاث محطات فاصلة .. البلديات .. الولايات .. البرلمان ..

وبينما كنا ننتظر مع شعبنا استلام السلطة ، كما نصّ على ذلك الدستور ، وفصّلته قوانين الجمهورية ، وجدنا أنفسنا بين عشية وضحاها ، وبقوة الحديد والنار ، خارج اللعبة السياسية .. فلا برلمان .. ولا حكومة .. ولا حزب .. ولا دار .. ولا دوار ..

.. وبقوة الحديد والنار ، وتواطؤ الدول العظمى ، وتحت شعار ’حماية الديمقراطية والنظام الجمهوري ، تربّعت على سدة الحكم ، الأقلية القليلة المنهزمة في الانتخابات ، لتتحكم في رقاب شعب لا يريدها ، وترهن مصير وطن بمساحة شبه قارة ، كان مرشّحا ليتبوّأ مكانة رائدة على المستوى القاري والعالمي ...

.. وبالانقلاب على إرادة الشعب ، والتنكر لنتائج الصناديق الشفافة ، والانتخابات التي شهدوا بعظمة لسانهم أنها حرّة ونزيهة .. انهارت دولة القانون .. وانقطع حبل الثقة بين الحاكم والمحكوم ، وعمت الفوضى ، واختلط الحابل بالنابل ، واصطدم الحق بالباطل ، ومُلِئت المخافر والسجون والمحاشر .. و كان طبيعيا أن تطغى بعدها لغة الرصاص والقنابل .. فكان النهب والحرق والتنكيل .. وكان المفقود والمقتول والقاتل ..

وكغيركم من أبناء الشعب المقهور المحقور ، التحقتم بالجبال مُكرهين ، مرغمين غير مخيرين ، دفاعا عن أنفسكم ، و على ضوء ما جاء في كتاب ربكم :

﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ ..

.. وانتصارا لشعبكم :

﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ﴾ ..

.. وطاعة لربكم :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ﴾ ..

.. ورغم المصاعب والعقبات التي اعترضت سبيلكم ، والمخاطر التي هددت حياتكم ، والفتن التي هجمت عليكم كقطع الليل المظلم .. فقد صمدتم وحاولتم جهدكم ، وحرصتم ما استطعتم على الوقوف عند حدود الله ، والعمل بهدي رسول الله :

« انطلقوا باسم الله ، وبالله ، وعلى ملّة رسول الله ، ولا تقتلوا شيخا فانيا ، ولا طفلا صغيرا ، ولا امرأة ، وأصلحوا وأحسنوا ، إنّ الله يحب المحسنين ».

وواصلتم السير على نهج الحق المبين ، شهرا بعد شهر، وعاما بعد عام .. كان زادكم خلالها تقوى الله ، وعبادتكم القيام والصيام ، والذكر على كل الأحوال ، وكان جهادكم أمرا بمعروف ونهيا عن منكر، وردع ظالم ونصرة مظلوم .. وكذلك كنتم و لازلتم .. حتى إذا رأيتم شحا مطاعا ، وهوى متّبعا ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، وتحول النهي عن المنكر إلى منكر أعظم ، والجهاد إلى اعتداء وانتهاك للحرمات ، وأصبح الخطر يتهدد الدين في قداسته و حقيقته ، والشعب في وجوده و عرضه وكرامته ، والوطن في استقلاله ووحدته و سيادته .. كانت لكم الشجاعة اللازمة ، والغيرة الكاملة ، والموقف الحازم الحاسم .. فصدعتم بكلمة الحق و لم تخافوا في الله لومة لائم ، ووقفتم في وجه القريب قبل البعيد ، والصديق قبل العدو ، وتصديتم لكل خائن و منحرف و ظالم ، وفتحتم بابا للفرج كان مقفلا ، وسرتم على طريق السلم والمصالحة والوئام ، متوكلين على الله رب الأنام ، الذي قال في محكم التنزيل و سورة الأنفال :

﴿ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ .

.. ورغم حسن بلائكم ، وصدق مسعاكم ، وما قدّمتموه من تضحيات وتنازلات في سبيل الله ، رحمة بالشعب ، وحبا في الوطن .. فقد تجرّأ قوم ، مستغلين حياءكم ، وتطاول آخرون ، غرهم سكوتكم .. ويرحم الله أبا الطيب :

وجاهل مدّه في جهله ضحكي ... حتى أتته يد فرّاسة وفم

إذا رأيت نيوب الليث بارزة ... فلا تظنن أن الليث يبتسم

أما الذين تجرأوا .. فقد مر عليهم زمن ، كانوا يُزايدون فيه بقضية الجيش الإسلامي للإنقاذ ، ويحتمون بمظلّته ، ويعيشون من سُمعته .. فاتهموكم بالاستسلام تارة ، وبالخيانة تارة أخرى ، لا لشيء ، إلا لأنكم وُفّقتم إلى القرار السياسي الصائب ، الذي غاب عنهم وأخطأوه .. وبارك الله سعيكم ، فصنعتم السّلم الذي عاد بالجزائر من بعيد ، بعدما عجزوا عنه وضيّعوه .. و ليتهم توقّفوا عند هذا الحد ، لَكُنا غضضنا الطرف وقلنا متجاوزين : هي انفعالات قوم ، حبسهم الجبن والطمع عن ركب المسيرة ، ورضوا بأن يكونوا مع الخوالف ، وقعدوا مع القاعدين .. لكنهم و يا ليتهم لم يفعلوا ، ذهبوا مذهبا لئيما ، ونهجوا نهجا مضللا ، وعادوا على أعقابهم ينكصون .. فتبرّأوا من الجهاد ، بعدما طبّلوا له طويلا وهلّلوا ، و تنكروا لمبدإ المطالبة و المغالبة ، الذي تبجحوا به كثيرا و أرغوا وأزبدوا .. ثم زادوا بعد ذلك على الذنب ذنوبا ، والخطأ أخطاء ، فشكّكوا في الرجال الأطهار الشرفاء ، الذين تقدّموا الصفوف وتصدروها ، عندما أحجم غيرهم وتأخر، وروّجوا عنهم أكاذيب ، تفيد أن الجماعات المسلحة كلها من صنيع النظام ورجاله .. وأقسم بالله العظيم غير حانث ، أنهم يعرفون يقينا ، بأنهم يقولون منكرا من القول وزورا ﴿ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ ﴾ .

... وأما الذين تطاولوا .. فلفيف من المسؤولين في الدولة ، والسياسيين والإعلاميين والمثقفين ، جميعهم ينتمون إلى التيار الاستئصالي أو يتمسحون بأذياله ، هذا التيار الذي انهزم في الإنتخابات شر هزيمة ، فانقلب على الشرعية وخرق الدستور وداس القانون ، و أشعل نار الحرب وأجرم في حق الشعب .. ثم اختبأ بعدها متحصنا في المحميات ، لا يخرج منها إلا إذا طلعت الشمس ، واشتعل وهجها في كبد السماء ، ولا يتحرك إلا في موكب مدجج بالأسلحة ، كعروس تخاف أن تختطف أو تغتصب أو تسبى ، أو ترمي بها الريح في فج سحيق .. وفي الوقت الذي انشغل أبناء الشعب بالحرب و الإقتتال فيما بينهم ، هذا بدافع الدين واسترجاع الحق المغصوب ، وذاك بدافع الواجب الوطني وحماية الدولة .. إنفرد أعداء الله و الأمة بالآمنين و العزل ، يصفون الحسابات وينتقمون .. وخلا الجو للأفاعي و الدينصورات ، فنهبوا الأموال وهربوها ، ولغموا البلاد ليدمروها ، ونأوا بأنفسهم وأولادهم بعيدا يتفرجون ، ينتظرون نهاية الجزائر ...

وكذلك كان الحال .. إلى أن تحاور وتفاوض الرجال مع الرجال ، وتوصلوا إلى اتفاق ، يضع حدا للاقتتال ، وتجرأ الرئيس بعدها و تشجع ، ونادى في هؤلاء وهؤلاء .. أن توقفوا ، وكفوا عن الخصام والنزال .. فلا غالب ولا مغلوب بين أبناء الجزائر .. كلكم سواء ، الحليق والملتحي ، والمتبرجة وصاحبة الجلباب ، كذلك العسكري وصاحب العمامة والبنجاب ..

عنذئذ .. وعندئذ فقط .. خرج سكان المحميات خائفين يترقبون ، وقالوا وهم يتساءلون : أصحيح ما تسمعون ؟ أم هي خدعة أخرى ، تسقينا كأس المنون ؟.. فلما تأكدوا من صحة البيان ، وشعروا بتفشي الأمان ، تنادوا وهم فرحون : أن هلموا .. قد عم السلام .. قد عم السلام .. ألا فليحيا الوئام ، ألا فليحيا الوئام .

ومع مرور الأيام .. تأكدّت عودة الأمن والأمان ، والسلم والسلام .. و شيئا فشيئا ، ولّى الخوف والرعب الأدبار واختفى ، و اطمأن الناس ، فاطمـأنت قلوبهم ، و استقرت نفوسهم ، ورجعت إليهم عقولهم ، وبدأوا حياتهم من جديد .. وقد تعلموا جميعا من سنوات الدم والدمار ، بأن الجزائر وطن لكل أبنائه ، أينما ولدوا وأنى كانوا وحلّوا وارتحلوا ، ومهما كانت ألوانهم السياسية ، ومدارسهم الفكرية ، أو لون بشرتهم ، أو السلالة التي انحدروا منها ..

.. كما اقتنعوا قناعة راسخة .. بأن الثوابت والقيم ، هي الرابط المتين الذي يربطهم ، والمظلة الواقية الحامية ، التي يتعايشون تحت ظلالها ، لا فرق عندهم بين أهل الشرق وأهل الغرب ، وأهل الجنوب وأهل الشمال ، إلا بالاستقامة والانضباط وحب الوطن ..

وإذا كانت هذه هي حالة الأغلبية الغالبة ، من أبناء الشعب الجزائري المسلم .. فقد شذّت عن القاعدة فئة تغريبية مستڤورة ، حتى لا نقول فرنسية متصهينة ، وراحت تهلل وتطبل لانتصارها المزعوم ، وتسوق لتجربتها المشينة ، دون حياء أو خجل ، فنظّم رموزها لذلك مؤتمرات ، وألقوا فيها محاضرات ، وجنّدوا لترويج أفكارهم المريضة وادعاءاتهم الباطلة ، جيشا من السياسيين المفَبرَكين ، والإعلاميين المأجورين ، والمثقّفين الممسوخين ، محاولين تغيير حقائق التاريخ ، وتشويه سمعة أهل الحق ، وتبييض صفحة أهل الباطل .. فكذبوا وافتروا ، وزوّروا ودلّسوا ، وضلّوا وأضلوا ، وصرخوا عبر أبواقهم المسموعة و المرئية ، المكتوبة و المروية : قضينا على الإرهاب ، وقبرنا دولة الإسلام ، فلا سياسة بعد اليوم ولا كلام ، ولا عودة إلى سنوات التسعين ، لا في اليقظة ولا في المنام .

أيها الإخوة الأعزّاء ..

لقد تجرّأ الجبناء وافتروا فريهم ، وتطاول الأقزام و روجوا زورهم ، وقد سمع الناس ما قالوا وكتب الله شهادتهم .. أما أنتم فقد خاطب العزيز الحكيم كل صادق فيكم ، وقال ما قاله للسابقين أمثالكم :

﴿ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ * إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ ..

ثم ماذا عساكم أن تفعلوا غير هذا .. إن قدركم ، هو المضي قدما على طريق الدعوة والنضال ، جهادا في سبيل الله ، بالحكمة والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالتي هي أحسن ، وقول الصدق ، والجهر بكلمة الحق ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، في حدود ما سمح به الشرع الحنيف ..

فاستمسكوا بالعروة الوثقى و بحبل الله المتين و ﴿ اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ ..