ترحّم ونداء

كُتب هذا المقال ترحما على السيد عبد الحميد مهري ونشر في 27 ربيع الأول 1433 هـ الموافق لـ 20 فيفري 2012م

                                             بسم الله الرحمن الرحيم

       ﴿يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾

كنت في المقبرة مع الجموع الحاضرة ، أستمع إلى رئيس منظمة المجاهدين السّيد المجاهد السّعيد عبادو ، وهو يؤبّن الأستاذ الفاضل ، وفقيد الجزائر الراحل ، الأب السياسي الحليم ، والمسؤول المتواضع الكريم ، السّيد المجاهد عبد الحميد مهري ، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته .

سمعت خطابا ، يُقرأ بصوت حزين ، ولسان أمين .. يبعث ، بإشارات قوية ، وحقائق جلية .. لا يختلف عليه الخصوم والأعداء ، فضلا عن أهل المودّة والولاء .. عدّد فيه ، مناقب الرجل الكثيرة ، والخصال الجليلة ، و التضحيات الجسيمة .. شهد له ، بالرّأي السديد والتوجيه الرشيد ، والتحليل الصائب والنظر الثاقب ، والكلمة الصادقة والحكمة الناطقة .
أثنى فيه ، على مشوار جهاده الطويل الناجح .. وعقله الكبير الراجح .. ولسانه الفصيح الصالح .
وأكّد صحّة ما ذهب إليه ، في تشخيص أسباب الأزمة ، وتمسّكه بالحوار والمصالحة ، حلا واحدا ووحيدا ، للخروج من الدوامة التي غرقت فيها البلاد ، وذهل لهولها العباد .، وختم الخطاب ، بالدعاء للفقيد والترحم عليه .

وكان في وسعه واستطاعته ، جازاه الله خيرا وأحسن إليه ، أن يكمل ما بدأ به قائلا :
هكذا عرفنا سي عبد الحميد ، المناضل القديم ، والرجل العظيم ، حاضرا في كل محطة و منعرج ، وفي كل تحول عاشته البلاد ، خلال مسيرة طويلة ، عامرة بالأحداث و التحديات ، لم يبخل فيها أبدا بالنصح للحاكم والمحكوم ، ولم يتوقف عن قول الحق للظالم والمظلوم ، ولم يعجز رغم تقدم السن ، عن أداء الواجب ، في تنوير الأجيال الصاعدة ، وهدايتها إلى الطريق القويم والصراط المستقيم .. وها هو يفارقنا اليوم ، وفي حلقه غصّة خنقته كمدا ، وفي قلبه حسرة قتلته حزنا ، على مصير الجزائر ، وشعب الجزائر ، ودين الجزائر .

ولأنني لا أشك أبدا ، بأن الغصّة التي خنقته ، والحسرة التي قتلته ، هما في حلق وقلب ، كل مجاهد نظيف وجزائري شريف ، في أي موقع كان ومن أي منظمة أو حزب .. فقد بِتّ أخاف أن نموت جميعا هكذا ، الواحد تلو الآخر ، دون أن نفعل شيئا يذكر ، أو نترك قولا يؤثر ، فيموت بموتنا تاريخ الثورة ، وتقبر حقيقتها ، وتخبو جذوتها ، وتطفأ شمعتها ، وتتحقق للأعداء آمالهم ، وللمتربصين أحلامهم .
فإلى متى نستمر في هذا الصمت الرهيب ، والموقف المريب ، الذي زعزع فينا ثقة الأجيال ، وجرّأ علينا الخونة والأنذال .
وإلى متى نبقى هكذا ، نتحمل الألم ، ونتجرع السقم ، ونحن نتقدم في كل يوم ، على نهج غامض ، ودرب مظلم ، ونهاية مجهولة .
أما آن لنا ، أن ننتفض انتفاضة  تكسر القيود ، ونزأر في وجه الباطل  زئير الأسود ، ونعود بشعبنا وبلادنا عودة ميمونة، إلى النهج الواضح ، والدرب المنير ، والمبادئ العظيمة ، التي سطّرها الرعيل الأول ، من إخواننا المجاهدين الأشاوس ، في بيان أول نوفمبر الخالد ، الذي حدد معالم الدولة الجزائرية وهويتها ، في البند الصريح الفصيح ، الذي نص على إقامة دولة جزائرية مستقلة ، ديمقراطية واجتماعية ، وذات سيادة ، ضمن إطار المبادئ الاسلامية .
هذا المشروع المجتمعي العظيم ، الذي يمثل بحق ، القاسم المشترك والقاعدة الصلبة الجامعة ، التي تصلح فعلا ، لتكون أساسا ، يبني فوقه كل الجزائريين على اختلاف مشاربهم ومدارسهم ، برامجهم السياسية والإصلاحية المتنوعة ، باختلاف التوجّهات .

اِيهٍ .. يا إخواني المجاهدين .. ماذا عساي أن أقول لكم ، غير ماتعرفون و تنتظرون ..
إن الموت حق .. وهو قدر محتوم لا مفر منه .. وهو قريب من ثلاث ، كما قال عليه الصلاة والسلام ..
المريض .. والمجاهد .. والذي اشتعل رأسه شيبا .. وهي صفات اجتمعت فينا كلها ، فلم يبق أمامنا إذا ، إلا أن نستعد وأكثر من أي وقت مضى ، للقاء ربّنا واللحاق بإخواننا ، من الشهداء الأبرار والمؤمنين الصالحين الأخيار .
فنحن اليوم ، إلى حياة القبر الموحش أقرب .. و من حياة القصر العامر أبعد ..
فهل نقرأ الدرس جيدا ، ونستخلص العبرة اللازمة ، مما وقع ويقع ، ونجدد العهد مع الله ومع الأمة ، وننطلق بكل عزم وحزم ، في عمل مدروس صائب ، وموقف شجاع غاضب ، نعيد به قطار البلاد إلى سكّته ، و المشعل إلى فتيته ، و الشعب إلى أمته .
يجب أن نتوكل على الله و لا نتردد ، و لايقولن أحدكم ، مالنا ولأمر لاناقة لنا فيه ولاجمل ، فالسلطة الحاكمة هي وحدها المسؤولة ، عن تردي الأوضاع وتفشي الفوضى و انعدام النظام .. ياسبحان الله ، و هل يوجد على رأس السلطة ، غير السيد الرئيس الأخ المجاهد عبد العزيز بوتفليقة ؟ و هل يسير أكبر و أهم مؤسسات الدولة ، غير إخواننا المجاهدين من قيادة الأركان في الجيش إلى قيادة المخابرات إلى غيرها من المؤسسات الإستراتجية ؟ لا.. لا.. لا عذر لنا بعد اليوم .. فإما أن نكون أو لا نكون .

إخواني في الكفاح ..
           إن أول خطوة تنتظرنا على طريق التصحيح ، هي إعادة النظر في الأدبيات و الشروط ، التي ترسم وتحدد معالم الأسرة الثورية ، هذه العائلة التي لم تخرج إلى الوجود على أساس عرقي أو رابطة دم ، وإنما ولدت من رحم المجموعة الوطنية ، و رضعت حليبها ، و نشأت في حجرها ، على ضوء تعاليم الإسلام المنيرة ، و مبادئ الثورة العظيمة .
التعاليم و المبادئ ، التي كانت ولاتزال و ستبقى شئنا أم أبينا ، المقياس الصحيح الأوحد ، الذي يرفع أبناء الجزائر البررة الأوفياء ، و يضع منهم العاقين الأدعياء .
وإذا كان الرسل والأنبياء لم يورّثوا دينارا ولادرهما ، بل ورّثوا العلم وجعلوه إرثا لمن يطلبه ، فكان العلماء هم ورثة الأنبياء .
فإن الشهداء الأبرار و المجاهدين الأبطال ، الذين ضحوا بالنفس و النفيس ، قد تركوا للأجيال مبادئ الثورة العظيمة ، و أخلاق النضال الحميدة ، إرثا مشتركا لكل الجزائريين ، الذين آمنوا بها و قبلوا بتبعاتها ، و قرروا المضي قدما ، نحو تحقيق أهدافها و ترسيم دولتها .
فبأي حق إذا ، و في أي دين ، و جدنا المسوغ الذي سمح لنا ، بتفضيل الإبن البيولوجي ، حتى و إن كان ممسوخا منسلخا يكفر بأصله ، و يعترف جهرا بحبه لعدو وطنه و شعبه ، على الإبن الشرعي للثورة و قيمها ، الذي يكابد الأمَرَّين ، من أجل قطع دابر الاستعمار و محو آثار الاستدمار ، وتحقيق الإستقلال الكامل و التحرير الشامل ؟.
ألم يعلمنا ربنا ، أن رابطة الإيمان و القيم النبيلة ، هي أولى و أقوى من رابطة الدم ، وعلاقة الأسرة و العشيرة .. فقال سبحانه من رب عادل ، و إله قادر ﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ ، ثم قطع سبحانه الشك باليقين ، في تحديد العلاقة بين الإبن وأبيه ، والفرد وذويه ، إذا فرّق بينهما الحق والباطل ، فقال عز من قائل ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ .
.. و أعتقد أن شاعر ثورتنا مفدي زكريا ، لم يجانب الصواب أبدا ، لما تكلم على لسان الثورة ، باسم الشهداء الأبرار والجزائريين الأطهار قائلا :
وقالت : جزائرنا الغاليةهو الصدق ، حقق آماليه
ومن دم شعبي وأكبادهإلى النصر قدّمت قربانيه
.. يرحم الله الرئيس هواري بومدين ، فقد كان لا يمل من التذكير بقوله : إذا كان المجاهدون الأوائل ، هم من فجر الثورة ، فإن الشعب هو من احتضنها و تحمل أعباءها ، فلا يحق لنا اليوم و تحت أي مبرر كان ، أن نبخسه حقه أو ننكر له فضله .. و استطاع رحمه الله ، أن يجمع أغلب الشباب الجزائري الوفي ، المتشبع بالمبادئ الثورية و القيم الوطنية ، في أطر نضالية متنوعة ، سمحت بتقوية الشعور بالإنتماء ، و الإعتزاز بالأصول ، و التمسك بدين الأجداد و ثقافتهم ، فكان شعار ابن باديس الثلاثي الخالد .. الإسلام ديننا .. الجزائر وطننا .. العربية لغتنا .. عنوانا كبيرا ، رفعته المدرسة الجزائرية عبر مختلف الأطوار ، أين زرع الأساتذة البادسيون ، المبادئ و القيم في عقول الناشئة ، فأنبتت في قلوبهم ، إيمانا بالله و تمسكا بالإسلام ، وحبا ووفاء للأوطان .. و لكم أن تقارنوا مقارنة بسيطة ، بين جيلين متعاقبين بعد الإستقلال ،  لتعرفوا الفرق الشاسع ، الذي يفصل السابق عن اللاحق ، في قوة التمسك بالدين و الوطن و القيم .

إخواني في الجهاد و النضال ..
             يأسفني ويألمني أن أقول لكم ، بأن الانتخابات القادمة ، لن تكون أبدا مفتاحا للاصلاح الذي يحلم به الجزائريون ، حتى ولو تمت في أحسن الظروف ، ووفق المقاييس العالمية والشروط الدولية ، ما لم يواكبها حوار عميق و شامل ، يذهب بالمصالحة إلى نهايتها ، ذلك لأن استحقاقا ، تقصى منه شريحة كبيرة ومؤثرة من الشعب الجزائري ، سيكون حتما فاقدا للشرعية ومنقوص المصداقية .
والغريب العجيب ، أن نظامنا الحاكم الذي أوقف المسار الانتخابي ، ودفع بالأوضاع السياسية إلى الاحتقان والتعفن ، وأوصل بلادنا إلى حالة من الفوضى والاقتتال ، بين أبناء الشعب الواحد ، تفوق عشرات المرات ما يجري اليوم في بعض البلدان العربية الشقيقة .. هذا النظام ، يحاول عبثا في هذه الأيام ، التدخل بين أطراف النزاع في البلدان المذكورة ، ودعوتهم إلى ترك لغة السلاح جانبا ، والجلوس إلى طاولة الحوار ، والإنخراط في العملية السياسية ، وفتح المجال أمام الشعب السيد ليقول كلمته .. هذا النظام نفسه ، هو من يمنع الحوار بين الفرقاء في جزائرنا ، بل فعل أكثر من ذلك ، فقد أخلف وعده ونقض عهده ، حتى مع الذين تفاوض معهم ، و أصدر على إثر ذلك مرسوما رئاسيا ، باسم الدولة الجزائرية ، يقضي بتمتع المعنيين بكامل حقوقهم المدنية .. هاهو يتنكر لهم جهارا نهارا ، وفي مرحلة حسّاسة خطيرة كالتي نعيشها ، ويمنعهم من ممارسة حققوقهم المشروعة .. يفعل هذا في وقت ، نحن أحوج ما نكون فيه ، إلى جمع الشمل و إصلاح ذات البين ، عن طريق الحوار و المصالحة التي توحد كلمتنا و ترص صفوفنا ، و تقوي موقفنا و تعزز مكانتنا بين الأمم و الشعوب .
فأي مصداقية بقيت لحكامنا ، و أي قيمة للقرارات التي تصدر باسم دولتنا ، بعد الذي عرفه الناس وعايشناه ورأيناه ؟.
وعلى أي أساس ، نقترح على غيرنا ما نرفضه ونحاربه نحن في بلادنا ؟. فالناس و على اختلاف أجناسهم ، يدركون جميعا ،  أن فاقد الشيئ لايعطيه .. فما هذا النفاق السياسي ، وحالة التذبذب في المواقف التي وصلنا إليها ، و الهوان الذي لحق بنا ؟.. أهذه هي الجزائر التي كانت قبلة للأحرار ؟ .. أ هذه هي الجزائر التي كانت ملاذا للثوار ؟.. أهذه الجزائر التي قهرت فرنسا ، و طردت من أرضها المجرمين الأشرار ؟ .

لكل هذا و لغيره ، وجب علينا أن نستعد جميعا ، لنجعل من موعد انعقاد المؤتمر القادم ، يوم 19 مارس إن شاء الله تعالى ، عيدا للنصر بكل المقاييس .. ننتصر فيه على أنفسنا الأمّارة بالسوء ، على أطماعنا وأنانيتنا ، على أضغاننا وأحقادنا ، على ترددنا وتخاذلنا ، على الخوف الذي كبّلنا وشلّ حركتنا ، حتى جعلنا نتردد و نحجم عن تمرير قانون ، نجرم فيه الإستعمار ، الذي فعل في شعبنا ما لم يفعله فرعون في قوم موسى ، على موسى و على نبينا أفضل صلاة و أزكى سلام .
نعم .. نجعله عيدا ننتصر فيه للدين ، فنعرّفه التعريف الصحيح ، ونمجّده التّمجيد الذي يليق به ، ونعيد له مكانته الحقيقية في الدولة ، بالتأكيد على كونه المصدر الأول والأهم ، للتشريع و التوجيه في كل مناحي الحياة ..
ولولا الوفاء لإسلامنالما قرر الشعب يوما مآله
ولولا استقامة أخلاقنالما أخلص الشعب يوما نضاله
هو الدين يغمر أرواحنابنور اليقين ويرسي عداله
إذا الشّعب أخلف عهد الإلهوخان العقيدة فارقب زواله
ننتصر فيه للثقافة واللغة ، التي تعبّر فعلا عن هويتنا الوطنية ، وانتمائنا العربي الاسلامي العميق .
ننتصر فيه للتّاريخ والثورة ، فنبرز الصفحات البيضاء الناصعة ، التي تحكي أحداث البطولات والمآثر ، دون أن نغفل ، تلك الجوانب المظلمة ، التي سوّدتها أخطاء البشر ، في لحظات ضعفهم وحالات جنونهم .
ننتصر فيه للشعب الجزائري المسلم ، بالرجوع إلى الحق ، ووضع الأزمة التّي كادت أن تأتي على الأخضر واليابس ، في إطارها الحقيقي ، الذي يسمح لنا ، أن نضع أيدينا على مواطن الداء ، ونصف له الدواء ، و نعالج جراحنا بمهارة الطبيب الحاذق ، و نسوي خلافنا بحنكة السياسي الحكيم ، في غير ضرر ولا ضرار ، ومن دون إفراط أو تفريط .
ثم نتكلم في الدولة التي عرفنا لها اسما ، ولم نجسّد لها رسما ، و ها نحن بين الشرق و الغرب ، في صحراء الحيرة الإديولوجية و التيه السياسي ، على وجوهنا هائمين .. فهلا جلسنا لنبحث في طبيعتها و نجلي حقيقتها .. ثم نتّفق على الثابت منها ، ونضع له المواد القانونية التي تؤكّده وتحميه ، ونبيّن المتغّير فيها ، ونجعل له المعالم التي توجهه وتهديه ، وننشئ الهيئات المرجعية العليا ، التي نعود إليها دوما ، عندما نختلف في فهم النصوص وتطبيقها ، قبل الذهاب إلى القضاء والاصطدام فيما بيننا .. و ننتصر للمجاهدين الأحرار و الشهداء الأبرار ، يإيجاد الصيغة الفكرية و السياسية ، التي تسهل علينا ، تفعيل و تجسيد مشروع المجتمع النوفمبري ، الذي سطروه بدمائهم الزكية ، و قدم في سبيله الشعب الفدية السخية .
إن عملا كهذا ، إن نحن أنجزناه و أتممناه ، بعد عرضه على أهل الخبرة و الكفاءة ، داخل مؤسسات الدولة المختلفة ، بمشاركة الأحزاب و المجتمع المدني الحقيقي ، خاصة الأطراف الفاعلة في الأزمة ، لإثراءه و مناقشته ، سيكون بمثابة ميثاق شرف وطني ، يجتمع على مضمونه كل الجزائريين .. وهو عمل ، سيضمن بعون الله استمرار الدولة ، بوحدة ترابية لا تتجزأ ، و شعب متماسك لا يتفرق ، وسلطة شرعية منتخبة ، تحمي الوطن بالحق ، وتحكم الشعب بالعدل ، و تنشر الأمن و الأمان ، و تشيع الفضيلة والأخلاق الحميدة بين الناس .. و على إثر هذه الخطوة العملاقة ، نستطيع و نحن مطمئنون ، تسليم المشعل للجيل الصاعد ، كي ينطلق به نحو الغاية المنشودة ، و تحقيق الحلم الكبير .

إخواني الأعزاء .. أمامنا خطوة جبارة ، نقطعها بإرادة الذين يقولون ويفعلون ، و تحد كبير ، نغلبه بعزم الذين يقدمون ولا يترددون .. أما الكلام ، فلم يبق لنا منه ، إلا الترحم على من فقدناهم ، و التوجه إلى الله العلي القدير بالدعاء الصادق ، عسى أن ينظر إلينا سبحانه ، بعين الرحمة و المغفرة ، فيرفع عنا غضبه ، و لا يعذبنا بسخطه ، و يتولى أمرنا ، و يحسن خلاصنا ، و يهدينا سبل السلام .

... كان هذا ، بعضا مما رجوت أن يقال ، في تأبين سي عبد الحميد مهري ، هذا الرجل الكبير ، الذي بادرني بقوله ، عند لقائي به بعد المصالحة و توقيف القتال : لقد وصلتني رسالتك في أوانها ، و أنا أشكرك ، و قد حاولت أن أرد ، لكنني تحفضت بسبب الوسيط الذي جاءتني عن طريقه .. قال ذلك رحمه الله ، وقد برقت المودة في عينيه ، وظهر الحرج على وجهه ، وتجلى الأسف واضحا في كلماته .. وهذا لعمري خلق عباد الله الصالحين ، وطبع رجال الحق الصادقين .. و لم أجد ما أرد به ، إلا الحياء ، في كلمات رقيقة صادقة ، و نظرة تقدير و احترام ، من عين فاحصة ناطقة .
.. وقد كان رحمه الله و أسكنه فسيح جناته ، من الشخصيات القليلة التي لا يتعدى عددها أصابع اليد ، ممن راسلناهم ، نطمئنهم و نطلب النصح منهم ، و نحثهم ونشجعم ، على القبول بلعب الأدوار الأساسية ، في وساطة جادة بين الأطراف المتنازعة ، بغية الوصول إلى حل نهائي للمحنة التي تمر بها البلاد ، و يكتوي بنارها العباد .
عرفت منه بعدها حقائق مفيدة - لا أكتمكم القول - أنها بالقدر الذي فاجأتني أفرحتني ..
ففي خضم الحديث عن الراحل بوضياف رحمه الله ، والمرحلة الحساسة التي عاد فيها إلى الجزائر ، تساءلت ، كيف لرجل في مثل مرتبته الثورية و النضالية ، يقبل و في آخر أيام حياته ، أن يخدم تيارا إستئصاليا لائيكيا .. ثم استدركت بسرعة .. آآه .. لا عجب في ذلك ، فهو حسب شهادات الذين يعرفونه ، علماني ، مثل الذين أقنعوه بالعودة .. فنظر إلي نظرة كلها شفقة وعتاب وقال : رغم ما يقولونه و ترددونه أنتم ، فإن سي محمد بوضياف ، من القلائل من بين رجال الثورة الذين عايشوه ، إن لم يكن الوحيد ، الذي كان يحافظ على صلاته لا يتركها أبدا منذ أيام شبابه .. فقلت : سبحان الله العظيم ..
بطاقة عضوية جيش التحرير الوطني
ثم سألته عن مؤتمر الصمام ، و الإنقلاب على أهم وأعظم بند ، تضمنه مشروع أول نوفمبر .. فأجاب دون تردد : لم يحصل أي إنقلاب على المبادئ ، و النسخة الأصلية للبيان الذي صدر عن المؤتمر ، لم تسقط منها عبارة - ضمن إطار المبادئ الإسلامية - كما يروجون ، وأنا لازلت أحتفظ بنسخة عندي تثبت ما أقول .. ثم أسترسل في ذكر محاسن الشهيد عبان رمضان ، و قدرته على التنظير و التنظيم ، كما رفض أن يوصف بالشيوعي ، بل قدم أدلة على أصالته وتمسكه بالإسلام والعروبة .. ولعل بطاقة المجاهد التي اعتمدت في المؤتمر - الواضحة أعلاه - تؤكّد شهادة سي عبد الحميد .
كما تكلم عن أصول السيد علي كافي ، و أثنى عليهم خيرا وقال : أخونا المجاهد علي كافي من بيت علم و دين ، من الزاوية الرحمانية ، تنقل أهله من نواحي بسكرة وتقورت ، و استقروا في الحروش .. و قد أكد هذه الحقائق السيد علي كافي في مذكراته .
و سألني عن سي عمار مزراق ، و هل هو من نفس العائلة فقلت : نعم .. إنه أحد أعمامي ، و قد انتهى به المشوار بعد الإستقلال ، مديرا بمدرسة الحياة ، التي اسسها الشيخ عبد الحميد بن باديس في مدينة جيجل ، أين تابعت دراستي الإبتدائية .. فقال مبتسما : كنت عنده تلميذا في واد زناتي ، ودرسني العربية ثم أثنى عليه خيرا .
و سألته ، إن كانت أصوله من واد زناتي فأجاب : لا .. أنا من سيوان .. قرية جبلية بولاية سكيكدة ، تقع على حدود دائرة القل والميلية بجيجل .. فأوضحت له بأني أعرفها وأقدر أهلها ، لثباتهم ووفائهم أيام الثورة ، وصبرهم و تفهمهم أيام المحنة .

أيها الأب الناصح الأمين .. كنت تقول لنا دوما ، إن هذا النظام أضعفنا جميعا وأضعف حتى نفسه ، وهو يراهن دائما في جميع وعوده ، على ربح الوقت ليس إلا ، وقد كنت محقّا إلى حدّ كبير ، فالاتفاق الذي تّم نتيجة - هدنة 97 ورسّم في جانفي 2000 - لازال يراوح مكانه ، خاصة في شقه السياسي وهو الأهم ، ومع أني لم أندم أبدا ، ولن أندم على ما قدّمناه من تنازلات في سبيل الله ، حمايةً للدين ورحمةً بالشعب وإنقاذا للوطن ، فهم يستحقون منّا أكثر من ذلك .. فإنه لم يبق عندي من ألفاظ مهذّبة - خاصة في هذه الأيام التي غلب عليها النفاق والكذب وتزوير الحقائق - أخاطب بها الذين وعدوا وعاهدوا ، وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية ، إلا هذه الأبيات لشاعر الثورة ، وليعذرني - رحمة ربي عليه - إن تصرفت في بعض الكلمات ..
عام مضى كم به خابت أمانيناماذا ’ جلبت لنا ‘ يا عام ألفينا
هل جئت يا عام بالبشرى تُباركناأم جئت ياعام بالأوهام تُلهينا
’ هل جئت يا عام بالحسنى تصالحناأم جئت يا عام بالأحلام ترضينا ‘
هل كان ’صلحك ، للتصحيح‘ بادرةأم كان للظلم والطغيان تمكينا
وهل لفجرك أشباه تعاودناننسى بطلعتها الغرآ دياجينا
وهل سيُنصَف شعب بات يجحدهمن ظل بالسلم في الدنيا يمنينا
نعم سيدي .. ودّعتنا ، وأنت تحاول جهدك وإلى آخر أيّام عمرك ، أن تصحح مسار الدولة ، وتقوّم اعوجاج النظام ، وتحثّ الشعب على ما يجمعه ويقويه ، وتحذره مما يفرقه ويضعفه .. وحسبك هذا .. فقد فعلت ما بوسعك ، والنتائج على الله يفعل ما يريد في الوقت الذي يريد .. أما المشروع والرسالة ، فهما في قلوبنا وعقولنا ، وسنستمر على طريق الحق لا نحيد عنه ، ولن نتوقف أبدا ، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا .

أيها الرجل الطيب .. كان علي انتظار هدوء الأصوات ، لأسمع كلامي .. وانطفاء الشموع ، لأنير شمعتي .. وجفاف الأقلام ، ليكتب قلمي .. حتى لا يطوى كتاب ذكراك سريعا ، ويرمى به ، في أرشيف النسيان .

وفي الختام .. أسأل الله أن تكون مررت على السؤال ، مرور عباد الله الصالحين ، وشملتك رحمة رب العالمين ، و حسن على إثرها حالك ومآلك ، وعلا بعدها شأنك ومقامك ، و انتقلت إلى دار القرار والحياة الباقية ، تنظر إلينا بإشفاق .. نحن الذين بقينا وراءك في دار الغرور و الحياة الفانية .. حقيقة لا شك فيها ، كما جاء في الكتاب الذي لا ريب فيه ، و الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه ..
﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ .

اللهم اجعل حياتنا في الدنيا ، مطية صالحة ، لحياتنا في الآخرة ، واجعل خير أعمارنا أواخرها ، وخير أعمالناخواتمها ، وخير أيامنا يوم نلقاك ، يا أرحم الراحمين .
                                                                                                                          
                                                                                                           مدني مزراق
27 ربيع الأول 1433 هـ الموافق لـ 20 فيفري 2012 م