الديباجة وأسباب التعديل

بسم الله الرحمن الرحيم

أيها الإخوة الأعزاء .. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد :

من الحكمة والروية ، وقبل صدور موقفنا الرسمي ، من مسودة الدستور المعروضة للنقاش .. رأينا أن نطلعكم ، على أهم المحاور التي تضمنتها ، مساهمتنا للتعديل الدستوري ، سنة 2014 م .. وسنقدمها في ثلاث مقالات ، تنشر في هذه الصفحة تباعا :

الأول ، في الدباجة وأسباب التعديل .. والثاني ، في الإصلاح الدستوري ودوافعه .. والثالث ، في الإصلاح السياسي ومتطلباته .. وسنبدأ بالمقال الأول .

بسم الله الرحمن الرحيم

الدول ، كيانات نشأت من تطور الجماعات البشرية ، التي انتقلت في تجاربها عبر الزمن ، من الأساليب البدائية في تنظيم الحياة ، إلى ما وصل إليه المجتمع الانساني اليوم ... وإذا درسنا جيدا أنواع الدول التي عرفها التاريخ ، فإننا نجدها في أربعة أقسام :

  • دولة الباطل
  • دولة الحق
  • دولة القانون
  • دولة الحق والقانون

ولأن التاريخ علمنا ، أن نشأة الدول ، غالبا ما يكون وراءها رجل همته كبيرة ، وطموحه أكبر ، في الإصلاح والبناء ، أو التسلط والهيمنة ، أو الملك والتوسع .. فإن هؤلاء الرجال المؤسسين ، يتحولون دائما إلى عظماء ، في نظر أتباعهم أو جماعاتهم أو شعوبهم ، بل يصبحون هم المراجع الأساسية ، في حياة الأتباع ، أمرا ونهيا وجزاء وعقابا .

وإذا كان المؤسسون الأوائل ، لم يكونوا في حاجة إلى وضع قواعد وقوانين مكتوبة ، تحكم وتنظم حياة الأتباع وعلاقاتهم ، وذلك لقلة عدد الأتباع والمساحات التي يسيطرون عليها ، الشيء الذي يجعل حضور المؤسس والحاكم الأول ، كافيا ، كدستور يمشي على رجليه بينهم .. إذا كان الأمر كذلك ، في بداية ونشأة الجماعات الأولى .. فقد تغير لاحقا ، بسبب كثرة عدد الجماعات ، واتساع الرقع الأرضية التي يحتلونها ، مما فرض على هذا الحاكم الزعيم " المعجزة " ، أن يجد الطريقة المثلى ، ليكون حاضرا بين أفراد شعبه ، أينما كانوا وحيثما حلو وارتحلوا داخل مملكته ، فكان هذا العقد ، أو الوثيقة الأساس ، التي تحكم وتنظم شؤون الأفراد والجماعات ، في كل مناحي حياتهم .. وهي الوثيقة التي نعرفها اليوم بالدستور .. فالدول التي نشأت في مثل تلك الظروف ، بعيدة عن نور النبوة ، وهدى الكتب السماوية ، حكمت بمنطق الطغيان والإستبداد والهمجية ، إلا فيما نذر .. وهذه حالة دولة الباطل ..

... وعلى عكس ، ما كان عليه الملوك والزعماء والسلاطين ، كانوا يحكمون الناس بالقواعد والقوانين التي يضعونها ولا يحتكمون إليها .. جاءت الكتب السماوية بالدساتير ، التي لا تفاضل في أمرها ونهيها ، بين السيد و المسود ، ولابين الحاكم و المحكوم .. لأن الذي شرعها ، هو مبدع الكون وخالق الإنسان ، وكلف بتبليغها و تطبيقها ، الرسل و الأنبياء ، عبادا اصطفاهم و عصمهم ، وأوجب عليهم الحكم بكتابه ، و الإحتكام إليه .. فكانت دولة القيم والمثل العليا ، دولة الحق .

دولة الحق : وهي تقوم أساسا ، على الثقة المطلقة بين الحاكم و المحكوم ، وترتكز على مجموعة القيم و الثوابت و الأخلاق ، التي تعتبر الرابط المقدس ، الذي يربط أفراد المجتمع بعضهم إلى بعض .. كما أن وجودها واستمرارها ، يتوقف على مدى تمسك السلطة الحاكمة ، بتلك القيم و المثل العليا ، مع الحفاظ على الثقة الموجودة .

أما دولة القانون : فلا تقوم إلا على أنقاض دولة الحق .. لأنها بكل بساطة ، تبنى على فقدان و غياب الثقة .. وذلك حين تنحرف السلطة في دولة الحق ، وتبتعد عن القيم والثوابت ، التي حكمت على أساسها المجتمع ، الشيء الذي سيضعف الوازع الأخلاقي لدى الأفراد ، ويدفعهم إلى عصيان القوانين والتمرد على النظام ، وهنا تدخل الدولة ، مرحلة الفوضى وانعدام الأمن ، وتستفحل الخلافات والصراعات ، بين مكونات المجتمع ، الموالية للسلطة والرافضة لها ، ويختلط بعد ذلك الحابل بالنابل ، فلا يعرف صاحب الحق من صاحب الباطل .. ولن تخرج الدولة من هذه الدوامة ، إلا بعد أن ينال التعب من الأطراف المتخاصمة ، فيقبلون بعدها ، بالجلوس إلى بعضهم البعض ، بغية التحاور و التفاهم ، للوصول إلى حد أدنى من القواعد الضرورية ، للتعايش والتعامل فيما بينهم ...

دولة الحق والقانون : هي الدولة التي تجمع ، بين دولة الحق بدينها وأعرافها وقيمها و أخلاقها ، ودولة القانون بمؤسساتها وهياكلها ونظام الحكم فيها .. هي الدولة التي تحرص ، على تعزيز التمسك بالدين ، و تعميق الانتماء للوطن ، وترسيخ التاريخ في ذاكرة الأجيال ، وتقوية الروابط الأسرية ، ونشر الفضيلة والأخلاق الحميدة بين أفراد المجتمع .. كما تسهر بنفس القدر أيضا ، على حماية الأفراد و الممتلكات ، وفرض النظام العام ، و إقامة العدل بين الناس .. فهي تعطي الحقوق لأصحابها ، وتطالبهم بالواجبات .. وتجلد المنحرفين العصاة بسياط القانون ، دون أن تبخسهم أشياءهم .. هي الدولة التي يكون فيها الحاكم ، أضعف الناس في رعيته ، عندما يخرق الدستور ويدوس القوانين ، ويصير أقواهم ، إذا تمسك بهما وعمل بمقتضاهما ...

... إن الأمة التي لا دين لها ، هي أمة ضالة تائهة حائرة ، تحيا بدون روح ولا أخلاق ، وتسير بلا نور ولا هداية ، وتموت موت الخارج من الحيرة الداخل إلى المجهول ..

والأمة المقطوعة عن تاريخها ، المفصولة عن هويتها ، التي لا تتكلم لغتها ، هي أمة لقيطة ، تعيش بلا أصل ولا عنوان ، وتحيا تابعة خادمة لغيرها ، يقولون فتسمع ، ويأمرون فتطيع ، كالمريد مع شيخه ، والعبد مع سيده ..

والأمة الجزائرية ، أمة محظوظة .. دينها ، هو أفضل الأديان وأرحمها ، وأصح الشرائع وأشملها ، وهو الدين الذي ارتضاه الله لعباده ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ .. ولغتها ، هي اللسان العربي المبين ، ولغة الوحي المنزل ، والحرف القرآني العظيم ، وخطاب أهل الجنة المنعمين .. وتاريخها ، عريق ، ضارب جذوره في القدم ، عامر بالبطولات والمآثر ، متواصل ، تواصل الحلقات في السلسلة المترابطة المتينة ، التي لا تنفصل ولا تنكسر .

والجزائر ، بلد واحد موحد ، أمازغي الأصل والمكان ، عربي اللغة واللسان ، مسلم الدين والجنان .

والجزائر ، دولة مستقلة سيدة ، ديمقراطية واجتماعية ، ضمن إطار المبادئ الإسلامية..

ونقصد بالدولة : الأرض ، والشعب ، والسلطة .

فالأرض : بحدودها المحمية ، وكنوزها الباطنة المخفية ، وتربتها الظاهرة السخية .

والشعب : بدينه الحنيف وقيمه العريقة ، وتاريخه الطويل وثقافته الأصيلة ، وحرّيته التي سالت من أجلها الدماء ، وسيادته التي استُرجعت بالجهاد والفداء .

والسلطة : بمؤسساتها و أجهزتها ورجالها ، الذين فوضهم الشعب السيد ، عن طريق الإقتراع الحر والنزيه ، لتسيير شؤون الدولة ..

فالدولة هذه .. هي دولتنا ، التي نحن منها وبها ولها .

أرضها : نشارك في خدمتها ، ونتعاون على حمايتها ، ونعيش من خيراتها .

شعبها : نعتز بأصوله ، ونفتخر بأمجاده ، ونتحمّل أخطاءه ، إذ أنه أبونا الذي نحن منه وله ، وصدق رسول الله ’’ ليس منا من لم ينتسب لأبيه .‘‘

سلطتها : مهما كان حزبها وانتماءها .. فنحن معها وإلى جانبها إذا أحسنت ، وننبهها وننصحها إذا أخطأت ، ونقف في وجهها ، ونحاكمها ونخاصمها ، إذا أصرّت على الخطأ والظلم وعاندت .

.. في هذه الدولة .. نتمتع جميعا بحقوقنا المدنية دون نقصان ، ونؤدي واجباتنا كاملة دون عصيان .. بروح المؤمن الصادق ، وقلب الوطني الغيور ، وعقل المواطن الواعي المسؤول .. الذي يقدم دوما الأصل قبل الفرع ، والمصلحة العامة قبل المصلحة الخاصة ..

... و لأن دولتنا اليوم ، تعيش مخاضا عسيرا ، بسبب الانتقال القسري المستعجل ، من دولة ، يحكمها نظام سياسي أحادي باسم الشرعية الثورية ، إلى دولة ، يحكمها نظام سياسي تعددي باسم الشرعية الشعبية ، دون توفير الشروط اللازمة لذلك .. كان طبيعيا أن ندخل في دوامة الفوضى واللاقانون ، وفقدان الثقة وانعدام الأمن .. ولأن الاستمرار على هذا الوضع ، والهروب إلى الأمام ، والقفز على الحقائق ، والبصر أعمى ، يوشك أن يُردي بنا وبدولتنا في هاوية لا قرار لها .. فإن الواجب يفرض علينا ، نحن أبناء الجزائر الأحرار ، وقد تعرضت أمتنا إلى هذه الفتنة الدامية والمحنة الفانية ، أن نعود إلى الأسس التي قامت عليها دولتنا ، فندعم أركانها ، وإلى المعالم التي وجهت مسيرتها ، فنصحح مسارها ونأمن طريقها ، لنضمن تقدمها وازدهارها ...

ولن نحقق هذا ، إلا إذا جلسنا في مودة وإخاء ، وتكلمنا بصراحة وصدق ، في الدولة التي عرفنا لها اسما ، ولم نجسد لها رسما ، وها نحن بين الشرق والغرب ، في صحراء الحيرة الإيديوليجية والتيه السياسي ، على وجوهنا هائمين .. فهلا بحثنا في طبيعتها ووضحنا حقيقتها ، ثم نتفق على الثابت منها ، ونضع له المواد القانونية التي تؤكده وتحميه .. ونبين المتغير فيها ، ونجعل له المعالم التي توجهه وتهديه .. وننشئ الهيئات المرجعية العليا ، التي نعود إليها دوما عندما نختلف في فهم النصوص وتطبيقها قبل الذهاب إلى القضاء والاصطدام فيما بيننا .. وننتصر للمجاهدين الأحرار و الشهاداء الأبرار ، بإيجاد الصيغة الفكرية والسياسية ، التي تسهل علينا ، تفعيل وتجسيد مشروع المجتمع النوفمبري ، الذي سطروه بدمائهم الزكية ، وقدم في سبيله الشعب الفدية السخية ..

إن عملا كهذا ، إن نحن أنجزناه وأتممناه ، بعد عرضه على أهل الخبرة والكفاءة ، داخل مؤسسات الدولة المختلفة ، بمشاركة الأحزاب والمجتمع المدني الحقيقي ، خاصة الأطراف الفاعلة في الأزمة ، لإثراءه ومناقشته ، سيكون بمثابة ميثاق شرف وطني ، يجتمع على مضمونه كل الجزائريين .. وهو عمل ، سيضمن بعون الله استمرار الدولة ، بوحدة ترابية لا تتجزأ ، وشعب متماسك لا يتفرق ، وسلطة شرعية منتخبة ، تحمي الوطن بالحق ، وتحكم الشعب بالعدل ، وتنشر الأمن والأمان والسلام ، وتشيع الفضيلة والأخلاق الحميدة بين الناس ..

لذلك فإن الوثبة المنتظرة ، والنقلة المأمولة ، لا يمكن أن تتم إلا بثلاثة خطوات أساسية ضرورية ، ضرورة الهواء والماء والقوت ، لمن يحرص على الحياة :

  • إستعادة الثقة وتجديد العهد والميثاق
  • الصياغة المفصلة لمشروع المجتمع النفمبري
  • وضع الدستور التوافقي الجامع

ولنفهم هذا جيدا ، علينا أن نعلم أن الدستور هو جوهر الميثاق الوطني ، ومشروع المجتمع هو التفاصيل الكاملة للميثاق الوطني .. وبما أن الميثاق الوطني يحتاج إلى طرح واسع ، ونقاش مستفيض . فإن مشروع المجتمع يحتاج بداهة إلى وقت أطول ونقاش أوسع ... لذلك فسنكتفي في هذه الوثيقة ، بالتنبيه إلى أهم الخطوات التي نراها ضرورية ، والمواد التي نعتبرها أساسية ، في إصلاح وتحيين الدستور ، من الناحية الفلسفية السياسية التنظيمية ...