رسالة إلى الشيخين

أُرسلت هذه الرسالة إلى الشيخين عباسي مدني وعلي بلحاج سنة في 13صفر 1416 هـ / 21 جويلية 1995م.

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين

إلى الشيخين: عباسي مدني رئيس الجبهة الإسلامية للإنقاذ ونائبه علي بلحاج:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:

شيوخنا الكرام:

نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، الذي تتم بنعمته الصالحات، وتتحقق بفضله الانتصارات وتحبط بعونه المكائد والمؤامرات، ﴿ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين﴾. سبقت كلمته أنّ الأرض يرثها عباده الصالحون.

شيوخنا الكرام:

من جديد يصل الله بيننا الأسباب، فيمنَحنا فرصة ثمينة للاتصال بكم، واطلاعكم على ما خفي عنكم، بعد هذا الانقطاع الذي طالت مدته، ولست أدري من أين أبدأ الحديث معكم، والأيام حبلى بأحداثٍ تستوجب الوقوف و الشرح، وتستلزم الاستفاضة في الطرح، ولكني سأبدأ من آخر الأحداث المتمثل في كشف ما جرى بينكم وبين السلطة مؤخرا، هذه الأخيرة التي عرضت بَحْرِيات المحادثات بينكم بصورة ذكية، سمحت لها بأن تظهر أمام الرأي العام بمظهر الحريص المتنازل في سبيل عودة الاستقرار والأمن والشرعية، جاعلة منكم العقبة الكؤود وحجر العثرة التي تعرقل كل المحاولات الرامية إلى تحقيق السلم الذي يصبو إليه الشعب.

وكما تعلمون، فإن السلطة تملك الوسائل الكافية لتحقيق أغراضها، كما أنها قادرة على تكميم فم الخصم، فلا يصل إلى المواطن إلا القراءة التي تريدها، والطرح الذي تؤمن به، وهذا الذي وقع فعلا.

والذي يؤسفنا ويؤلمنا، هو أننا نبهناكم في الرسالة السابقة إلى ضرورة توحيد كلمتكم، وعاتبناكم في ذلك العتاب الحيي اللطيف، ولكن رغم ذلك، ها أنتم تظهرون مرة أخرى بمظهر الحزب المتشتت الذي لا رئيس له ولا جنود، وبالرأي المختلف المتخالف الذي يكرس إشاعة ’ازدواجية القطبية‘ وتعددها في صفوفكم، هذا الاختلاف الذي يقذف الوهن، ويورث الفشل، ويُطمِع فيكم الأعداء، وقد قال الله تعالى ﴿ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين﴾

شيوخنا الكرام ..

إن التشاور واجب شرعي على المسؤول، وحق شرعي للذين معه، كما أن الاختلاف في الرأي طبيعة إنسانية لم يرفضها ديننا الحنيف، ما لم تكن مخلة بالمبادئ والمصالح الشرعية الكبرى، إنما الذي ينهى عنه الدين، ويحرّمه الشرع هو تعدّد القيادات، والتفرق شيعا وأحزابا داخل الجماعة الواحدة، وهذا الذي يوحي به موقفكم الأخير ويُفهم منه.

شيوخنا الكرام ..

لعلكم تتذكرون إصرارنا في الرسالة السابقة في مطالبتكم بإصدار مرتكز شرعيّ يحدّد المبادئ الجهادية ودوافعها ’المقاومة الشعبية‘ ويبيّن الوسائل الشرعية التي يقوم بها أمر الجهاد ويوضح الأهداف التي نسعى إلى تحقيقها من وراء هذا الجهاد.

هذا المرتكز الشرعي الذي يُعطي الحجة والدعم للمجاهدين الصادقين الطاهرين ويقطع الطريق أمام المنحرفين المعتدين، ويغلق الأبواب في وجه المندسين والانتهازيين والمتسللين إلى صفوف المجاهدين، وبذلك تصفو الساحة الجهادية ويسهل الوصول إلى الهدف المنشود.

إن هذا المرتكز الشرعي حق للمجاهدين وللشعب عليكم، وهو من واجبكم الذي، لو أديتموه في وقته، لكان اليوم حجة في أيديكم على السلطة، التي تطلب منكم إصدار بيان تنددون فيه بالتجاوزات التي يرتكبها الاستئصاليون داخل السلطة، وعملاؤهم داخل الصف الجهادي.

شيوخنا الكرام ..

يجب أن تعلموا أن إخواننا المُفرَجَ عنهم، لم يقدّموا شيئا ذا بال للساحة الجهادية، اللهم إلا بعض الاتصالات مع الأحزاب، وما وقع في ندوة ’روما‘.

وكان طلبنا منهم واضحا عندما التقينا بهم أول مرة، ألا وهو العمل على ترتيب البيت الجهادي وتنظيمه، ولكن للأسف الشديد، ثبت بعد ذلك  تهرّبهم وتملّصهم من هذه المهمة التي كان في وسعهم تأدية جزء وخطوات جبارة منها، ولكن ”تجري الرياح بما لا تشتهي السفن“!

ورغم أننا قطعنا أشواطا كبيرة في تنظيم جزء كبير من الصف الجهادي تنظيما محكما، يخضع إلى ضوابط شرعية واضحة، وينقاد إلى إمارة معروفة معلومة، كل ذلك في غيابهم الطوعي، ذلك الغياب الذي جعلنا نلحّ في طلب اللقاء بهم، فما كان لنا ذلك إلا مع واحد منهم فقط، الذي وعدنا، بعد نقاش مستفيض وأخذ ورد عريض، بإصدار بيان يعلنون فيه مباركة وتأييد الخطوة التي قام بها ’الجيش الاسلامي للانقاذ‘، إلّا أننا من حينها لم نقرأ في الجرائد إلّا ما يُفهَم من تصريحاتهم عكس ما طلبناه منهم.

شيوخنا الكرام..

إن التجاوزات التي تسمعون عنها حقيقة مرّة، وواقع معيش، بل إن الأمور قد تطورت لتصبح بعض الجماعات التي ترفع راية الجهاد زورًا، تفوق في انحرافها وضلالتها واعتداءاتها وجرأتها على شرع الله، تفوق تلك الفرق الضّالة التي نقرأ عنها في كتب التاريخ، كالخوارج وما شابههم.

والمؤلم أن إخوانكم المُفرَج عنهم يعلمون ذلك يقينا، ولم يحرّكوا ساكنا، ولم يقرّوا معروفا أو ينكروا منكرًا، ربّما لأنهم يخافون على أنفسهم من السلطة، ومن كل من يملك السلاح، فصمتهم الرهيب الذي لا يشبهه سوى صمت أهل القبور، قد جعلنا نواجه الكلّ بمفردنا، من تيار وطني صادق يريد منا ألّا نظهر إلا بمظهر المقاتلين الشرفاء، وشعب يطلب منا الدفاع عنه، وتيار استئصالي يكيد للإيقاع بين مختلف فئات الشعب وفئات المجاهدين ، وبين تيارات المؤسسة العسكرية، وجماعات جهادية، منها من تذبح الإسلام مع سبق الإصرار، ومنها من تهدّم الجهاد غفلة وجهلا، وزاد على هذا كله أن فئة كبيرة من الجماعة المنحرفة الباغية الضالة ’الجماعة الإسلامية المسلحة‘ GIA قد باشرت القتال ضدّنا، بعدما بدأت تمهد له منذ أكثر من سنة ونصف بترويج فتاوى باطلة ودعايات كاذبة، كالعمل تحت الراية الحزبية، والاعتراف بقيادة شيوخ ضالين لم يتوبوا من كبيرة الانتخابات والقبول بها.

نعم .. لقد اتبعوا أسلوبا غادرا، لا يقبل به إلا خائن قد تجرّد من كل الأخلاق والقيم والعهود، حيث اتخذوا ’التقية‘ أسلوبا للتعامل مع إخواننا، فجاءوا إليهم طالبين التفاهم معهم، والحديث إليهم، حتى إذا استأمنهم الإخوة على أنفسهم غدروا بهم وقتلوهم.

لقد وقع هذا في أكثر من أربعة مناطق، وبما أننا كنا قد صبرنا وصبّرنا الإخوة على اعتداءات تعرّضوا لها مرارا، فقد كان هذا الغدر الاخير المنظم والمخطط له، بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس، والعمل الذي كشف الخونة وعمالتهم للتيار الاستئصالي، فلم يكن من بد إلا مقاومة المعتدين، وتأديب المارقين، وكان ذلك بفضل الله بعد أيام قليلة من القتال، ونحن الآن نسيطر على الوضعية، ونعمل جاهدين على تنجية المغفلين منهم، وإصلاح شأن التائبين، وقطع دابر المندسين المغرضين.

ولِعِلْمِكُم فقد أرسلنا رسالة مستعجلة للشيوخ المُفرَج عنهم، بغرض التنقل إلينا، لنبحث القضية سويًا، والخروج بقرار نحاول أن نوصله إليكم، ولكن ”لا حياة لمن تنادي“! وتجنبا للإطالة في هذه القضية، التي تضيق بها المجلدات، فإننا نضع بين ايديكم شريطا سمعيا سجله أحد قدماء مقاتلي الجيا بعد عودته إلينا معترفا نادما، وما في هذا الشريط قليل القليل من كثير الكثير.

شيوخنا الكرام ..

إن التيار الاستئصالي الذي يتكون من ضباط سامين في الجيش، وجحافل من الموظفين تحتل المراكز الحساسة في الإدارات المركزية، ولوبي إعلامي خطير ألقى بظلاله على كل الساحة الإعلامية تقريبا، وأحزاب سياسية معروفة بعدائها لأيّة تسوية تفرح الشعب الجزائري، وجمعيات نسوية ومهنية ونقابية، وعلى رأسهم زعيم المركزية النقابية، هؤلاء جميعا الذين يشكّلون بحق ’حزب فرنسا‘.

إن العناصر التي تكون النواة الصلبة لهذا التيار، هي المسؤولة عن التقتيل الجماعي للشعب الذي تنفذه بعض الفرق من قوات الأمن والمليشيات وهي التي تقف وراءه، ووراء التجاوزات التي يرتكبها المجرمون والحمقى والمغفلون من أفراد الجماعات الجهادية المنحرفة، وذلك عن طريق عناصرها المتسللة إلى صفوف هذه الجماعات التي يسهل اختراقها لانعدام التنظيم، وقلّة وعي أفرادها، وشغفهم بامتلاك السلاح وإكبارهم لمن يستطيع أن يضع بين أيديهم قطعة سلاح واحدة! فما بالكم بمن يحمل إليهم عددا لا بأس به؟ وإن عناصر الاستئصاليين لتفعل هذا والأدلة كثيرة، وسوف نكشف لكم عنها حين تحين الفرصة.

إن هذا التيار هو الذي يعمل، جاهدا، بكل ما لديه من قوة وتأثير على جميع المستويات لنسف أي مشروع محتمل، يفترض فيه تسهيل التقارب بين أبناء الجزائر البررة في مختلف مواقعهم، في داخل النظام، أو في الأحزاب السياسية أو المقاتلين في سبيل الله.

بناء على كل ما سبق، فإن المرحلة تتطلب ذكاء خارقا، ووعيا رساليا ثاقبا، وحنكة سياسية عالية، وقبل هذا وبعده، إيمانا بالله قويا، ويقينا لا يشوبه شك، وعملا لله خالصا، وتجردا من كل حظوظ النفس الأمّارة بالسوء.

لهذا، فإن الاتفاق على إثبات ما جاء في بيان نوفمبر الذي ينص على ”إقامة دولة جزائرية مستقلة ذات سيادة في إطار المبادئ الاسلامية“ . هذا الهدف العظيم، الذي عمل على تحقيقه مجاهدون صادقون، وشهداء ابرار خالدون، والذي طالته يد الخيانة في مؤتمر ’طرابلس‘ فطمسته وحرّفته، إن الاتفاق على هذا المبدأ العظيم مع مبدأ ’حرية التعبير والممارسات في إطار القيم الوطنية الاسلامية‘ مع المبدأ المنصوص عليه في الدستور الذي يسمح للرئيس المنتخًب أن يعدّل الدستور بإكمال ما نقص منه، وإصلاح ما فسد فيه، وإدخال ما غاب عنه عن طريق استفتاء شعبي حرّ. إن هذه المبادئ مجتمعة تحقق جزءا هاما من أهدافنا المسطرة التي تسمح للصادقين من أبناء هذا الوطن أن يحقق الأهداف الأخرى لاحقا بكل سهولة. وإن إشهاد علماء مخلصين، وقدماء مجاهدين صادقين، وشخصيات وطنية معروفة نزيهة، وأحزاب سياسية ذات تمثيل شعبي، على هذا الاتفاق، ومن ثمّ يشهد عليه الشعب كله، والله على الجميع شهيد، إن عملا كهذا ليعتبر قاصما لظهر الاستئصاليين.

شيوخنا الكرام..

إننا سنعمل في هذه الأيام على دفع الشيخ ’أحمد سحنون‘ للتدخل من أجل المساهمة في تقريب وجهات النظر بينكم وبين الرئاسة، ولكم أن تقترحوا شخصيات أخرى ترونها مؤهلة لمرافقته في هذه المهمة، كما أننا سنعمل بإذن الله مع الغيورين الصادقين على تذليل الصعاب التي تواجه مساعيكم.

تنبيه: إن التيار الاستئصالي يعمل على الايقاع بين أبناء الشعب الواحد، وجعله شيعٌا وفئات متناحرة، ثم تقزيمكم بعد ذلك، يجعلكم قادة لفئة واحدة من فئات هذا الشعب، الأمر الذي سوف يمنعكم مستقبلا من أداء رسالتكم الربانية كدعاة، والقيام بمهمتكم الحضارية كمنقذي أمّة، والاضطلاع بدوركم الريادي في قيادة الشعب وهذا الوطن إلى برّ الأمان.

لذلك، فإننا نربأ بكم أن تغفلوا فتقعوا فريسة هذه المكائد الخسيسة والمؤامرات الدنيئة، وحتى تفوتوا الفرصة على المتآمرين، اجعلوا خطابكم موجّها للشعب بكل فئاته، ومواقفكم خالصة لله وصالح الأمة.

شيوخنا الكرام..

إننا عندما نضع بين أيديكم هذه الحقائق، ونقدّم إليكم هذه المطالب، وننبهكم إلى بعض الدسائس، إنما نفعل هذا لتكونوا على بيّنة من أمركم، ودراية بما يدور حولكم، حتى يسهل عليكم بلورة الموقف الربّاني المنتظر، الذي هو أمل الشعب فيكم وحقه عليكم، وأمرُ الله لكم. ﴿وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للنّاس ولا تكتمونه﴾

وبقولكم الكلمة الفصل المنتظرة، ستقيمون الحجّة على كل الناعقين المتربصين من داخل السلطة وخارجها، وتعززون موقف المجاهدين والغيورين الصادقين في مختلف مواقعهم، وعند ذلك سيصبح الأمر سهلا يسيرا، فإمّا أن تستقيم الأمور ويكرّم الدين ويرفع الظلم عن الشعب، وينقذ الوطن وتعود الحقوق إلى أهلها، وعندها حقّ لنا أن نقول ﴿وكفى الله المؤمنين القتال﴾، وإما أن يتمادوا في ظلمهم وغيّهم ويستمرّوا في تعنتهم وينقادوا لأهوائهم، وعندها حقّ لنا أن ندمر عليهم الدنيا بتأييد من ربّنا وتزكية من شعبنا، ونصرة من كل مخلص.

في الأخير، شيوخنا الكرام، نقول لكم اطمئنوا، فإننا بحمد الله على العهد، وننتظر الوعد ثابتين صابرين، لا يضرنا من خذلنا أو عادانا، وإن أوضاعنا في تحسن مستمر، وإن صفوفنا تتراص أكثر، وإننا على علاقة وطيدة بشعبنا رغم المهازل التي يقترفها عناصر الجيا والتي أصبح الشعب لا يطيق سماع اسمها.

نسأل الله أن يجمعنا بكم قريبا في يوم من أيامه الخالدات، ودمتم في رعاية الله وحفظه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الصابر على الحق مع إخوانه

أبو الهيثم

مدني مزراق