عبد الحفيظ

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله تعالى :

﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ، وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ، وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا ، إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا ﴾

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقوله الحق : " حَرُم على النارِ كلُّ هيِّنٍ لينٍ سهلٍ قريبٍ من الناسِ " .

كان بسيطا في حياته ، بسيطا في مأكله ، بسيطا في ملبسه ، بسيطا في مشيته ..

وكان يمشي على الأرض الهوينى .. كأنه يستثقل نفسه عليها ، رحمة بها وشفقة عليها .. فهو يعلم أنها أمه التي خلق منها ، وإلى بطنها يعود .. ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ ﴾

كان صابرا ، كان عاقلا ، كان هادئا صموتا ..

كان يتكلم قليلا ، بالكلام الطيب المفيد ، والرأي السديد الرشيد .. وكان يبتسم غالبا ، بابتسامة الطيب الودود ، ولا يضحك إلا نادرا ، بعيدا عن القهقهة ونهيق الحمار الشرود ..

كان طاهرا ، كان تقيا ، كان نقيا ، كان وفيا ، كان رضيا .. وأسأل الله أن يكون عند ربه مكرما مرضيا ..

كان زاهدا في الحياة الدنيا ، معرضا عنها ، عازفا عن متاعها .. لا يبالي ..

وكأنه قرر نهائيا ، أن يكون من عباد الله الصالحين الفطناء ، الذين قال فيهم العارف الحكيم :

... إن لله رجالا فطنا ... طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا

... نظروا فيها فلما علموا ... أنها ليست لحي وطنا

... جعلوها لجة واتخذوا ... صالح الأعمال فيها سفنا

ورغم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، و هو الصادق المصدوق : " الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة " .

رغم هذا الحديث الصريح .. فقد عزف أخونا عبد الحفيظ عن الزواج ، ورفض كل المعروضات والمقترحات ، وباءت معه كل المساعي بالفشل ..

ومات ، وهو يرفض الزواج رفضا قاطعا .. ربما لأسباب قاهرة .. وربما لمانع منعه ، وأبقاه في صدره دفينا ..

وكأني بالعزيز الحكيم ، الرؤوف الرحيم ، قد نظر إليه نظرة رحمة وشفقة ، وقال له : يا عبدي .. يا عبد الحفيظ .. قد طالت عزوبيتك وحرمانك ، وطال معهما صبرك وجهادك .. وآن الأوان ، لتعود إلى الرحيم الرحمن .. فيزوجك بحوريات الحياة الباقية ، وقد عزفت عن حرائر الحياة الفانية .. ويكرمك بدرجة الشهيد والشهادة ، وأنت على فراشك وفي بيتك ، وقد سعيت وراءها في ساحات الوغى سنوات .. فهنيئا لك الشهادة ، وبورك لك في الحور .. وأهلا بك عند ربك ، في جنة عرضها السموات والأرض ، أعدت لعباده المتقين وأوليائه الصالحين .

نعم .. مات أخي عبد الحفيظ صابرا راضيا ، بوباء الطاعون الكوروني .. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح :

" كانَ ، أي الطاعون ، عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ علَى مَن يَشَاءُ ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ ، فليسَ مِن عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ ، فَيَمْكُثُ في بَلَدِهِ صَابِرًا ، يَعْلَمُ أنَّه لَنْ يُصِيبَهُ إلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ له ، إلَّا كانَ له مِثْلُ أجْرِ الشَّهِيدِ " .

ثم زاد على ذلك في حديث آخر ، وهو الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، فقال :

" ما تَعُدُّونَ الشَّهِيدَ فِيكُمْ ؟ قالوا : يا رَسولَ اللهِ ، مَن قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ فَهو شَهِيدٌ ، قالَ : إنَّ شُهَداءَ أُمَّتي إذًا لَقَلِيلٌ ، قالوا : فمَن هُمْ يا رَسولَ اللهِ ؟ قالَ : مَن قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ فَهو شَهِيدٌ ، ومَن ماتَ في سَبيلِ اللهِ فَهو شَهِيدٌ ، ومَن ماتَ في الطَّاعُونِ فَهو شَهِيدٌ ، ومَن ماتَ في البَطْنِ فَهو شَهِيدٌ " .

اللّهم تقبل عبدك عبد الحفيظ في الصالحين ، فإنه كان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله .. اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه ، وإن كان مسيئا فتجاوز عن سيئاته .. اللهم لا تحرمنا أجره ، ولا تفتِنَّا بعده ، واغفر لنا وله ولجميع المسلمين .. اللهم وسّع مدخله ، وأكرم نزله ، واجعله يا رب في أعلى عليين ، مع النبيين والصديقين ، والشهداء والصالحين ، وحسُن أولئك رفيقا .. وارزق اللهم أهله وذويه ، الصبر والسلوان ، والرضا والرضوان ، والمغفرة والغفران ، والتقوى والإحسان ، والثبات على طريق الإسلام .. إنا لله وإنا إليه راجعون .

ولأن أخي محمد بوالصوف ، المدعو عبد الحفيظ ، كان رجلا من رجال الجيش الإسلامي للإنقاذ الصادقين ، وركيزة من ركائزه الثابتين .. فقد استحق ، أن ننصح ونذَكّر على لسانه وفي تأبينه ، دعاة التصحيح والتغيير ، من الحراكيين وغيرهم ، بالمواقف الثابتة ، والنصائح الصادقة ، والتوجيهات الصائبة .. والله من وراء القصد ، والهادي إلى سواء السبيل .

بسم الله الرحمن الرحيم

يا أبناءنا .. يا إخواننا ..

إن الشعوب الحية ، هي الشعوب المتحركة المناضلة .. والشعب الجزائري ، واحد من هذه الشعوب ، يذكر إذا ذكرت ، ويمجد إذا مجدت ، ويقدم إلى الصفوف الأولى إذا قدمت ، بل يفضل ويكرم ويكون في مقدمتها .. وإذا كانت الكتابات التارخية ، هي الدليل القاطع على نضالات الشعب فيما مضى .. فإن حراككم اليوم ، يمثل أكبر دليل ، على حيوية هذا الشعب ونضالاته ، وكأنكم تقولون للبعيد والقريب ، أن هذا الشبل من ذاك الأسد ، ومن شابه أباه فما ظلم ..

أيها الشباب الرجال ..

لقد تحققت بفضل صبركم ونضالكم ، إنجازات وأهداف وتغييرات ، كانت تعتبر قبل عام فقط ، عند أهل العزم من كبار المناضلين ، أحلاما بعيدة المنال ، وضربا من ضروب الخيال .. ومما زاد المشهد بهاء وجلالا ، يد الله التي تعمل في الخفاء ، وعنايته وبركته وفضله ، في تسخير مؤسسة الجيش ، التي رافقت الحراك الشعبي ، وسهرت على تنفيذ مطالبه المعقولة ، وجعلت منها واقعا معاشا ، وحقيقة لا خيالا .. والفضل لله من قبل ومن بعد ، ولله عاقبة الأمور .

أيها الرجال الشباب ..

لقد غضبتم ، وتفهمت الدولة غضبكم .. وصرختم ، وسمع العالم صراخكم .. وسعيتم ، وقد بارك الله سعيكم .. وطالبتم ، وتحققت مطالبكم المعقولة ، وبقيت أخرى إلى أجل .. وما لا يدرك كله لا يترك جله .. فالثائر يثور ويهدأ ، ويحارب ويسالم .. والعاقل يأخذ ويترك ، ويقدم ويؤخر .. والبصير الصادق ، يضرب في كل غنيمة بسهم ، ويعاشر كل طائفة على أحسن ما معها ، كما قال السابقون من السلف ، وأكده اللاحقون من الخلف ..

... نعم أيها الشباب .. إن أخوف ما أخاف على هذا الحراك ، الذي انطلق بنداء مجهول ، أن ينتهي إلى مصير مجهول كما بدأ .. خاصة ونحن نرى تكالب ، الفرونكوش خروقراط ، على ركوب موجته والتسابق إلى صدارته .. والإصرار على بقائه هكذا ، بدون قيادة معلومة مسؤولة ، أو مشروع واضح المعالم ، محدد المطالب .. حتى يسهل عليهم توظيفه ، كورقة ضغط قوية ، لتحقيق مشاريعهم المشبوهة ..

فالحيطة الحيطة .. والحذر الحذر .. إن الجزائر مستهدفة ، وقد أصبحت في عين الإعصار ..

لقد آن الأوان لهذا الحراك ، أن ينتظم في إطار معلوم ، ليكون شريكا سياسيا واجتماعيا حقيقيا ، يحاور ويجادل عن قضايا الشعب الأساسية ، ويدفع بقطار الشرعية ، إلى محطته الصحيحة في أقرب الآجال ..

فالرأي الرأي .. والسداد السداد .. والرشاد الرشاد .. ويرحم الله القائل :

.. الرّأيُ قَبلَ شَجاعةِ الشّجْعانِ ... هُوَ أوّلٌ وَهيَ المَحَلُّ الثّاني

.. فإذا همَا اجْتَمَعَا لنَفْسٍ حُرّةٍ ... بَلَغَتْ مِنَ العَلْياءِ كلّ مكانِ

.. وَلَرُبّما طَعَنَ الفَتى أقْرَانَهُ ... بالرّأيِ قَبْلَ تَطَاعُنِ الأقرانِ

.. لَوْلا العُقولُ لكانَ أدنَى ضَيغَمٍ ... أدنَى إلى شَرَفٍ مِنَ الإنْسَانِ

نسأل الله أن يحفظ جزائرنا من كل شر وسوء ، وأن يحمي شعبنا من كل كيد ومؤامرة .. آآآميين .

... وفي الأخير ، أقول لحكام الجزائر وقادتها ، وفي مقدمتهم الأخ الرئيس عبد المجيد تبون : اتقوا الله في شعبكم ، اتقوا الله في وطنكم ، اتقوا الله في دينكم ، اتقوا الله في لغتكم .. اتقوا الله في الدماء التي سالت ، والأرواح التي زهقت ، والتضحيات التي قدمت ، والأموال التي ضاعت .. اتقوا الله في أمانة الشهداء التي تركوها بين أيديكم .. اتقوا الله في حلمهم الذي ماتوا دونه ولم يحققوه .. بل ، اتقوا الله في مطلبهم الذي حددوه وبينوه وأكدوه ، في بيان أول نوفمبر الخالد ، الذي نص وينص صراحة ودون لبس أوغموض ، على : بناء دولة جزائرية مستقلة سيدة ، دموقراطية واجتماعية ، ضمن إطار المبادئ الإسلامية ..

.. مطلب وغاية وهدف ، لا يقبل التأويل ولا التأخير ولا المماطلة .. لكن ، ينتظر التأكيد والتطبيق والتجسيد والمساءلة .. فاتقوا الله ، وامضوا قدما ، مع أبناء شعبكم جميعا ، على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم ، من غير إقصاء ولا تهميش ، يدا واحدة ، وجنبا إلى جنب ، متحدين متضامنين ، لا يضركم من خالفكم أو وقف ضدكم ، مادمتم على طريق الحق سائرين .. فاتقوا الله ، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ، وكونوا عباد الله إخوانا .. تعوذوا من الشيطان الرجيم ، وخافوا الله ، واتقوا ربكم الذي خلقكم ورزقكم ، وكونوا من الصادقين ومع الصادقين .

اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رشدا ، يعز فيه وليك ، ويذل فيه عدوك ، ويحكم فيه بأمرك .. اللهم اهدنا جميعا إلى صراطك المستقيم ... آآآميين