شهادة في حوار

أجرى هذا الحوار الصحفي عبد الحي شاهين، ونُشر في مجلة الإسلام اليوم في شهر محرم 1426م الموافق لـ فبراير 2005م. وأُعيد نشره في موقع الإسلام اليوم.

حمل الأمير الوطني للجيش الإسلامي للإنقاذ الشيخ مدني مزراق بشدة على حكومات وأجهزة مخابرات أجنبية، واتهمها بتصعيد الأزمة في الجزائر وتعقيدها. وقال مدني مزراق في حوار مع (الإسلام اليوم) من مقره في مدينة جيجل شرقي الجزائر: إن الحكومة بإلغائها للمسار الانتخابي سنة 1991 وزجها الإسلاميين في المعتقلات، قد جنّدت المئات من الشباب للقتال ضدّها في الجبال، وأعطت الشرعيّة للعمل المسلح. ونفى مزراق الذي كان في السابق أميراً للجيش الإسلامي للإنقاذ (الجناح العسكري للجبهة الإسلامية للإنقاذ) ودخل في هدنة مع الحكومة الجزائرية حلّ بموجبه الجيش، نفى أن يكون جيشه قد مارس العنف أو اعترف به، وقال: إن الجيش الإسلامي كان يجاهد وفق أسس معينة، مؤكداً أنهم لا يعرفون العنف، ولم يكن هدفهم قتل الناس في المدن والشوارع، وفي هذا المنحى لفت "مزراق" إلى أن الجماعة الإسلامية المسلحة، وهي فصيل إسلامي آخر كان يناوئ الحكومة الجزائرية قد انحرفت بالجهاد من خلال تبنيها لفكر "التكفير والهجرة". وتحدّث "مزراق" في الحوار الموسع معه -والذي حرصت (الإسلام اليوم) على عدم التدخل فيه بالحذف أو الإضافة-حول بدايات تكوين الجيش الإسلامي للإنقاذ، والخيارات التي كانت مطروحة أمامه، وعن تواصلهم مع العلماء والمشايخ في العالم، ثم ألقى الضوء على اللحظات التي اتخذ فيها قرار حل الجيش الإسلامي للإنقاذ، والدخول في هدنة مع النظام الجزائري، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بقضية العنف في الجزائر... فإلى الحوار...

كيف كانت بدايات تكوين الجيش الإسلامي للإنقاذ؟

استئناساً بقوله تعالى: ﴿وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين﴾ نقدّم اليوم الصورة التي قدمنا بها أنفسنا للشعب الجزائري يوم قلنا:

”أيها الشعب الجزائري المسلم، إننا لا نلقي إليك جديداً، إذ أخبرناك أن ’الجبهة الإسلامية للإنقاذ‘ هي ثمرة شجرة الدعوة إلى الله في هذا البلد الطيب، التي غرسها صحابة فاتحون، وتعهدها علماء مخلصون، وحماها أبطال مجاهدون، وسقاها بالدم القاني شهداء صادقون على مر السنين وتتالي القرون، وعبر منعطفات تاريخية حاسمة كان آخرها ثورة نوفمبر المجيدة، التي أحبطت محاولات فرنسا اليائسة في اجتثاث هذه الشجرة المباركة من جذورها واقتلاعها من أصولها.

ولكن رجال الثورة – مع الأسف- أخفقوا في جني ثمار النصر، هذه الثمار التي وقعت جراء مؤامرات ودسائس خطيرة عظيمة في أيدي التغريبين العملاء الذين كانوا يتربصون بالمجاهدين الدوائر ويتحينون الفرص للانقضاض ويخططون لتخريب الجزائر. هذه السرقة الموصوفة التي سمحت "للحركة" والخونة أن يحكموا الجزائر من وراء الكواليس حينًا، وجهارًا نهارًا حينًا آخر، فحققوا لفرنسا خلال سنين معدودة ما عجزت عن تحقيقه خلال ما يزيد على قرن وربع قرنٍ من الزمان.

فكان لابد أن يتسلم الراية جيل أخذ على نفسه أن يحقق عهد الشهداء من قبل في بيان الفاتح من نوفمبر الخالد حين قالوا: ”إنّنا لن نلقي السلاح حتى نقيم دولة جزائرية في إطار المبادئ الإسلامية…“ هذا الجيل الذي أثبت الانتساب إلى الأصل العريق الشريف، وقَبِلَ أن يكون –سياسياً- الابن الشرعي لـ ’جبهة التحرير الوطني‘ الأصيلة، تحت اسم ’الجبهة الإسلامية للإنقاذ‘، كما أكّد على ذلك الشيخ ’عبّاسي مدني‘ ذات يوم والابن الشرعي –جهاديًا- لـ’جيش التحرير الوطني‘ تحت اسم ’الجيش الإسلامي للإنقاذ‘.

واليوم، والجزائر تعيش المحنة القاسية، يتساءل كثير من أبنائها عن سبب هذا البلاء، ومصدر هذا الشقاء، وجذور هذه المحنة، فيعيده بعضٌ إلى الأزمة الاقتصادية، وينسبه آخرون إلى ’التسيير الارتجالي‘ الذي وسم أكبر سنوات الاستقلال، ويربطه طرف ثالث بـ’التعفن السياسي‘ ويجزم التغريبيون في سفاهة أن سبب الأزمة يكمن في قلّة ’النضج السياسي‘ لدى الشعب حين آثر العودة إلى دينه والتشبث بقيمه، والسير وراء رموزه وعلمائه.

ولكن الحقيقة أكبر من ذلك؛ فهي مؤامرة بحجم المصيبة التي نعيشها اليوم ونكتوي بنارها. مؤامرة نسج خيوطها المستعمر الحاقد قبل رحيله، واستودعها قلوب عملائه وأوليائه. واستأمن على تنفيذها حثالة الشيوعيين التغريبين الذين لم ولن يرضوا الخير للجزائر أبدًا. مؤامرة قال عنها ’ديغول‘ بصراحة: ”سنترك لهم الجزائر الآن، لتعود إلينا بعد ثلاثين سنة صاغرة ذليلة، بجيل لا علاقة له بالثورة، ولا ارتباط له بالتاريخ، جيل بلا ثقافة، اللهم إلا ما نلقيه له نحن من وراء الضفة الأخرى للمتوسط.“

وكاد أن يتحقق ذلك لفرنسا وعملائها، لولا لطف الله بهذه الأمة، وعنايته بأرض الشهداء، وحفظه لأبناء المسبحين المهللين الأوفياء، فأتاهم من حيث لم يحتسبوا، ورماهم بعصا إنقاذية، أبطلت السحر، وكشفت الحقد، وفضحت المؤامرة الملعونة، وأيقظت العزائم من غفلتها، والهمم من غفوتها، وأعادت للأبصار نورها، وللقلوب بصيرتها فكانت تلك الجحافل الربانية، التي انطلقت مهللة مكبّرة في شوارع الجزائر ومدنها وقراها، وجوامعها وجامعاتها، لاعنة التركة الفرنسية الشيطانية داعية إلى إقامة دولة إسلامية بالعودة إلى منطلقات الثورة النوفمبرية ومرتكزاتها العقيدية، ملتزمة في ذلك كله بالطرق السلمية، فأقامت الحجة مرتين، بانتخاب واضراب وتلتهما بأخرى في ديسمبر كان بها فصل الخطاب،وسدّت على الطواغيت كل المنافذ والأبواب، فما كان منهم إلا أن جهروا للشعب بالحقد والعداء، وانكشفوا أنهم موطن الداء، وسبب المحنة الرعناء، فسارعوا إلى إلغاء الانتخابات وفتح المحتشدات، وانتهاك الحرمات، وساقوا خيرة شباب الأمة إلى السجون والمخافر بالمئات تتلوها المئات.

كل ذلك لم يشف حقد الطاغوت، ولم يرو غليله، فتعداه إلى إزهاق أرواح المسلمين، واغتيال براءة الشباب في مدن كثيرة، مثل: باتنة، قسنطينة، الجزائر، الأغواط، وغيرها من الولايات التي ذاقت الويلات بغير ذنب اقترفوه، أو جرم جنوه، اللهم إلا أن قالوا: ”ربنا الله“.

وأمام هذا الطغيان الغاشم، والعدوان الظالم، لم يكن للشباب من خيار إلا مقاومة المعتدين، ومغالبتهم في سبيل استرجاع حقوق المستضعفين، والدفاع عن المضطهدين من الرجال والنساء، والولدان، محييًا بذلك فريضة رب العالمين، مستجيبًا لقوله: ﴿وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾ [النساء:74]

فأقبل على الموت غير هيّاب، يفدي بنفسه آلاف الثكالى، واليتامى، ويجعل آمال الطاغوت محض سراب.

وكان لا بد، في غياب توجيهات الشيوخ السجناء، وسكوت العلماء الأجلاء، وقعود الدعاة العقلاء، كان لابدّ أن تتعرض المسيرة الجهادية للدسائس والمكائد من قبل الدخلاء والمندسين العملاء، وليس بدعاً أن يكون في صفوف المجاهدين سمّاعون لمثل هؤلاء، وقد قال الله تعالى من قبل: ﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ﴾ فكان الذي كان، ووقع ما لم يكن في الحسبان، فإذا المجاهدون فريقان:

- فريق رأى أن الجهاد استمرار واستكمال لجهود السابقين، من المجاهدين وعلمائه الصادقين وشيوخه الميامين، فأكّد ثباته على العهد مع قيادته الشرعية، وانتماءه لتاريخ أجداده الإسلامي الشوري الأصيل، وأعلن التـزامه بالكتاب والسنة كما شرحها علماء الأمة الموثوقون الصادقون على مرّ القرون ، ولم يتنكرْ لشعبه الذي هو منه وبه كان لله وللإسلام.

وانطلاقًا من هذا كله، حدّد منهجيته في الجهاد، وطريقته في القتال، التي سمحت له أن يخوض حربًا شريفة نظيفة، تدور رحاها بين الرجال والرجال، ملتزمًا في ذلك بتوجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم:«انطلقوا باسم الله، وبالله، وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا طفلاً صغيرًا، ولا امرأة، ولا تغلوا، وأصلحوا وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين». فحاز بذلك على المصداقية مع شعبه، وأرغم عدوّه قبل صديقه على الإقرار له بالمروءة والشرف في القتال، والصدق في تحقيق الغاية والهدف، ومن كان يجهل ذلك، فليسأل الأعداء قبل الأصدقاء عما يجري في الجبال والشعاب والوديان والهضاب ، إن هذا الفريق هو: الجيش الإسلامي للإنقاذ.“

هذه هي الصورة التي عرَفَنا بها الشعب الجزائري طوال مسيرتنا الجهادية، وأكدناها في بيان رسمي للرأي العام الوطني والدولي، وكذلك للسلطة، ونحن في أوج قوتنا في أوائل سنة 1995.

ما موقفكم من الجماعة الإسلامية في ذاك الوقت تحديداً مع بداية تصاعد العنف في الجزائر؟

سؤالكم هذا يدفعنا لكي نفصل قليلاً ونضع نقاطًا على حروفها:

العنف الذي تتحدثون عنه لا نعرفه ولا نؤمن به ، ولا نرضى به خُلقًا نتخلق به أو سلوكًا نتبعه، أما الجهاد وهو الذي تقصدونه بالعنف؛ فقد تعلمناه من آيات الله البينات ومن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وتاريخ الصحابة والفاتحين، وآمنّا به كلاً لا جزءًا، فنجاهد بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة والحكمة البالغة والدعوة الصادقة والفعل السياسي الهادف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب واللسان واليد ضمن القيود الشرعية، وبالقتال إذا فرض علينا ، طريق سطره الله لعباده المؤمنين، كان ولا يزال وسيبقى إلى يوم الدين.

أعود إلى الجماعة الإسلامية المسلّحة التي أخلطت أوراق الحركة الإسلامية في الجزائر خاصة وفي العالم عامة، إذ إنها فاجأت الجميع بالفتاوى الضالّة المضللة، والسلوكيات المنحرفة والمواقف التي لا تمتّ إلى الإسلام بصلة، تنكرت للمشايخ والعلماء، وفهمت خطأً مقاصد الفقهاء؛ فاستباحت حرمات المسلمين وأباحتها بقرارها ذاك لكل عدوٍّ متربص ليعيث فيها فسادًا، فاجتمعوا مع أعداء الأمة عليها بالذبح والتقتيل والسلب والتشريد والتعذيب..وحتى لا نجني على القوم كثيرًا ونبخسهم حقهم؛ فإن الإيمان والمروءة يفرضان علينا أن نشهد لفئة منهم ليست بالقليلة بالصدق في المسعى، والنية الحسنة والجد في نصرة الإسلام والمسلمين، إذ إنهم كانوا جنودًا في صفوف الحركة الإسلامية على اختلاف مناهجها وتنظيماتها، فخدموا الدعوة صادقين وقدّموا الجهد والوقت والمال في سبيل إعلاء راية الدين، ولما وقع القضاء وشاء الله أن يلتقي الجمعان ويصطدم الطرفان، تقدموا الصفوف حين أحجم غيرهم، وضحوا بالغالي والنفيس في الوقت الذي تردد وتراجع فيه من رفعوا شعار المطالبة والمغالبة إلى الوراء، ورضوا أن يكونوا مع الخوالف والقاعدين. واعتقد جازمًا أن أيدٍ خفية قوية استطاعت بذكاء كبير ومجهود أكبر، أن تغير مسار الجماعة من الحق إلى الباطل، ومن الاستقامة إلى الزيغ والانحراف فوقع المحظور وكان الذي كان، فإذا بالجماعة يسيطر عليها شرذمة من الأحداث يفتون بغير علم، ويحكمون بغير حق ويستبيحون كل ما وجد أو تحرك فوق الأرض، نسأل الله العفو والعافية والهداية والرشاد.

كيف كان رأي العلماء ممن اتصلتم بهم، في مسألة العنف واللجوء إليه؟ وهل نصحكم أحد منهم بالاستمرار فيه؟

لا يخفى على أي من أبناء الحركة الإسلامية أن الأغلبية الساحقة من العلماء والدعاة على اختلاف مدارسهم ومذاهبهم كانوا يجاهدون جميعًا بالكلمة والقلم والعمل الصالح، من أجل تقويم مسار الأمة واستنهاض الهمم، وشحذ العزائم للوقوف صفًا واحدًا وسدًّا منيعًا في وجه المد الصهيوني والهجمة الصليبية التغريبية الشرسة، وطبيعي أن عملاً بمثل هذه الأهمية وبقدر هذا الحجم ، يحتاج إلى اجتهادات كبيرة متنوعة، مما أدى بداهة إلى ظهور أطروحات وبرامج للتغيير تتفق في المبادئ والأهداف الرئيسة البعيدة المدى، وتختلف في الأساليب والوسائل، وتحديد الأهداف القريبة المدى والمتوسطة ، وكذلك التضارب في إصدار الأحكام.

وبما أن حوارنا هذا لا يسمح بالتطرق لتفاصيل وجزئيات ما ذكرنا، فسنكتفي بتوضيح الرؤية التي كانت سائدة عند أغلب من قصدناهم آنفًا.

فالمعلوم من خلال الكتب التي قرأناها والمحاضرات التي سمعناها، والدروس التي تلقيناها أن جموع العلماء كانوا متذمرين ساخطين على الأنظمة الحاكمة في البلدان العربية والإسلامية، ينعتونها بأسوأ النعوت، ويصفونها بأبشع الأوصاف؛ بل يجمعون على تكفيرها كأنظمة تقر القوانين الأرضية الوضعية، ولا تستمد أحكامها من مصادر الشريعة الإسلامية، ويفسقون ويخوّنون الحكام لتطبيقهم الأحكام الوضعية والتآمر على الدين والأوطان والشعوب.

وواضح في دين الله عز وجل أن ما ذهبوا إليه هو عين الحق والصواب، إذا استثنينا قلة قليلة من البلدان تراعى فيها مكانة الشريعة وحرمة الدين.

وأظنني لست متقولاً أو متحاملاً ولا أذيع سرًّا ، إذا أعلنت أن الغالبية العظمى من الحركات الإسلامية برجالها ودعاتها ومشايخها ، استبشرت خيراً بالمقاومة الشعبية التي انطلقت في الجزائر بزعامة التيار الإسلامي؛ بل وافقها على ذلك كثير من الحركات الديموقراطية، وعدد لا بأس به من رجال الإعلام وكبار الساسة في العالم، كيف لا وهم يتابعون على المكشوف الأحداث الأليمة المتسارعة في جزائرنا العزيزة ، حين أقدم النظام الحاكم على ارتكاب الجريمة المتمثلة في وقف المسار الانتخابي، والسطو مع سبق الإصرار والترصد على اختيار الشعب؟! وياليتهم توقفوا عند هذا الحد، بل ركبوا رؤوسهم وأطلقوا العنان لطغيانهم وجهالاتهم فهجموا على بيوت الإخوان يختطفونهم وينتهكون حرماتهم، وفتحوا أبواب السجون للأطهار الشرفاء حتى امتلأت، ثم نفوا من تبقى إلى الصحراء في محتشدات تركها المستعمر وأخرى أنشئت خصيصاً لاستيعاب الأعداد الهائلة من أبناء هذا الشعب.

وأمام هذا الاعتداء الصارخ على الديموقراطية وحقوق الإنسان ، لم تستطع حتى الدول الغربية العظمى أن تخفي قلقها تجاه ما يقوم به النظام في الجزائر، بل وأظهرت تعاطفاً مع التيار الإسلامي ممثلاً في الجبهة الإسلامية للإنقاذ. وتطور موقفها فيما بعد إلى رفض صفة الإرهاب التي أطلقها النظام على العمل المسلح.

ومع الأسف .. ففي الوقت الذي كنا ننتظر فيه من إخواننا وشيوخنا الدعاة والعلماء، أن يسارعوا لأداء حق النصرة امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً…» الحديث. بالتأكيد على حق الدفاع عن النفس الذي أقرته جميع الشرائع والأديان، وأقرته كل المواثيق الدولية، مع الاعتراف بحقنا الدستوري في تسيير شؤون البلاد مع شركائنا من الأحزاب السياسية التي حازت معنا تزكية الشعب. والنصح للمجاهدين ومطالبتهم صراحة باحترام مبادئ الجهاد العظيمة والتحلي بأخلاق المقاتلين الشريفة، والأخذ بالتوجيهات النبوية الخالدة والوقوف عند حدود الله الرادعة، مع التبرؤ من كل عمل يخالف شرع الله والقيم الإنسانية. والاجتهاد في الوصول إلى الخبر اليقين ومعرفة الأحداث، وذلك بالتقرب من رجال السلطة والقادة السياسيين للجبهة الإسلامية للإنقاذ، وقادة العمل المسلح لأخذ صورة صحيحة عن الصراع الدائر، مما يسمح بإسداء النصح، وإبداء الرأي السديد لأطراف النـزاع ثم شهادة الحق بصوت مرتفع إذا تعذر الوصول إلى حل وسط، والوقوف إلى جانب من رضي بالحوار والصلح ضد من رفض أو تنكر كائناً من كان، عملاً بقول الله عز وجل: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ﴾

قلت: في مثل هذا الوقت الذي كنا ننتظر ما سبقت الإشارة إليه ..توزعت مواقفهم بين:

- متعاطف : يؤيد المجاهدين ابتداءً من باب النصرة، وقد سكت عن التجاوزات التي يرتكبها المقاتلون بتأويل منه آملاً أن تصحح لاحقاً؛ إذ لا يعقل لمسلم مجاهد أن يُصرّ عليها ويتمادى فيها.

- متهور: عجول ناقم ، يؤيد العمل المسلح بدون قيد أو شرط ، قد أبهره التقدم السريع في ميادين القتال الذي يحققه المجاهدون.

- مُزايد طامع : يسعى لتحقيق الشهرة والحصول على حطام الدنيا من وراء تزكية كل أعمال الجماعة المسلحة مهما كانت منكرة بشعة. وكذا الترويج لتصوراتها وأفكارها على انحرافها.

- متخوف جبان : يسعى لإبعاد الشبهة عن نفسه ، راح يصدر فتاوى وينتج أفكاراً لا طعم لها ولا لون ولا رائحة رغم أنه يعرف الحق.

- متفرج على الأحداث : يُتابعها من بعيد وينتظر ما تؤول إليه الأمور، وكأن الذي يحدث مجرد مباراة في كرة القدم.

- ضعفاء أغبياء : ألفوا الحياة الرغيدة الهنية ، طاشت عقولهم من هول ما يرون ويسمعون، فأسرعوا إلى تحريم الجهاد، وأقسموا بالثلاث أنه لا يجوز الخروج على السلطان.

- متزلفون للحكام : قد صبّوا جام غضبهم وحقدهم على الدعاة والشباب ، الذين رفضوا الظلم والذل والهوان وقدموا أنفسهم رخيصة في سبيل الله.

- و قلة قليلة جداً : هي التي حاولت أن تتحرى وتتبين عن كثب ، وسعت جاهدة للوصول إلى حل وسط يرضي الطرفان ، فيقنع السلطة ويرفع الظلم والجور عن الجبهة الإسلامية ومن والاها، ويعيد بعضاً من الحقوق المغتصبة.

بالطبع كان هذا قبل أن تنحرف الجماعة المسلحة بالجهاد وتصبح مجموعة من المجرمين المحترفين قد تنكروا بأفعالهم لكل الشرائع والأعراف والقيم الإنسانية.

أما ما صدر من آراء وفتاوى بعد ذلك فقد جاء بعد فوات الأوان.

وللحق والتاريخ يجب علينا أن نعترف بأن الحركة الإسلامية ، ورغم ما بذلته وتبذله من مجهودات جبارة في سبيل الدعوة إلى الله، وما تقدمه من تضحيات بغية التمكين لدين الله ، لا تزال تفتقر إلى نماذج من الدعاة والعلماء تتوفر فيهم الصفات القيادية الضرورية.

فإلى جانب الإيمان والالتـزام ..لابد من الشخصية السوية التي تزينها المروءة والشجاعة والرزانة، والتكوين المتنوع المتكامل مما يؤهل صاحبها ليصبح قادرًا على:

- الإلتزام با العمل الصالح وإبداء الرأي الصواب والجهر به، ولا يخاف في الله لومة لائم.

- اتخاذ القرارات الحاسمة في أوانها.

- قوة تنفيذ القرارات الحاسمة في آجالها المحددة.

وبهذا فقط تستفيد الأمة من أي فرصة متاحة ولا تفوتها فضلاً أن تضيع منها ، وتجنب الأمة كوارث ومهالك وقعت وتقع فيها كل مرة، وبهذا فقط نُحيي آمالاً، ونقرب أحلامًا يئس الكثيرون من تحقيقها.

تشيرون دائما إلى أيادٍ خفية كانت تحرك الأمور في الجزائر وتجهض أي محاولات للوصول إلى حل لقضية العنف.. فإلى أي مدى تتحمل بعض التيارات داخل النظام الجزائري مسؤولية العنف؟ أيضاً هل تعتقد بوجود أيادٍ خارجية استفادت من العنف واستمراريته؟

نعم.. هناك أيادٍ خفية فعلاً تحرك الأمور بنسبة معينة من وراء الستار، وقد أشرنا إلى ذلك في أوانه، ونبّهنا من يهمهم الأمر؛ إذ كتبنا رسالة للشيخين عباسي مدني وعلي بلحاج في بداية سنة 1995م جاء فيها ما يلي:

”إن التيار الاستئصالي الذي يتكون من ضباط كبار في الجيش، وجحافل من الموظفين تحتل المراكز الحساسة في الإدارات المركزية، و(لوبي) إعلامي خطير ألقى بظلاله على كل الساحة الإعلامية تقريبًا، وأحزاب سياسية معروفة بعدائها لأي تسوية تفرح الشعب الجزائري، وجمعيات سنوية ومهنية ونقابية، هؤلاء جميعًا الذين يشكلون بحق حزب فرنسا.

إن العناصر التي تكوّن النواة الصلبة لهذا التيار، هي المسؤولة عن التقتيل الجماعي للشعب الذي تنفذه بعض الفرق من قوات الأمن والميليشيات، وهي التي تقف وراءه، ووراء التجاوزات التي يرتكبها المجرمون والمغفّلون من أفراد الجماعات الجهاديّة المنحرفة، وذلك عن طريق عناصرها المتسللة إلى صفوف هذه الجماعات التي يسهل اختراقها لانعدام التنظيم، وقلة وعي أفرادها، وشغفهم بامتلاك السلاح، وإكبارهم من يستطيع أن يضع بين أيديهم قطعة سلاح واحدة! فما بالك بمن يحمل إليهم عدداً لا بأس به؟ وإن عناصر الاستئصاليين لتفعل هذا والأدلة كثيرة، وسوف نتحدث عنها متى تتاح الفرصة .

إن هذا التيار هو الذي يعمل جاهدًا بكل ما لديه من قوة وتأثير على جميع المستويات لنسف أي مشروع محتمل، يفترض فيه تسهيل التقارب بين أبناء الجزائر البررة في مختلف مواقعهم في داخل النظام أو في الأحزاب السياسية أو المقاتلين في سبيل الله.“

وهناك شواهد تدل على أن أجهزة المخابرات لدول أجنبية محددة شاركت بطريقة أو بأخرى في تعقيد الوضع.

ماهي الدوافع الحقيقية والرئيسة وراء عدول الجيش الإسلامي للإنقاذ عن العنف؟

بعدما فشلنا في توحيد صفوف المقاتلين تحت راية واحدة، وترتيب البيت الجهادي وفق تصور واحد يدفع الجميع لتحقيق هدف واحد بوسائل مشروعة ضمن الشروط الشرعية المقيدة.

وبعدما عجز السياسيون عن اتخاذ مواقف جريئة يثمّنون بها التضحيات الجسام التي قُدمت، وأهدروا فرصاً عديدة أُتيحت لهم. وبعدما انحرفت الجماعة المسلحة من الجهاد إلى تكفير الشعب فكانت تلك المجازر التي صُعِق لها الثقلان.

وبعدما أجمع الدعاة والعلماء من خلال رسائلهم وتصريحاتهم على الأقل بنبذ ما يسمونه عنفاً والدعوة إلى ترك لغة الرصاص.

وبعدما أصبحنا نخوض حرباً ضروساً على ثلاث جبهات:

الأولى: ضد النظام وجحافله.

والثانية: ضد الجماعة المنحرفة وفلولها.

والثالثة: ضد المرجفين الشامتين من إخواننا والمتربصين المتطاولين المفترين من أعدائنا.

حيث كانت الحرب مع الأوليين بالدم والرصاص، وكانت مع الثالثة بالكلمة والقلم عبر البيانات والأشرطة.

حصلت لدينا قناعة تؤكد بأن الاستمرار في هذه الطريق مع هذه المعطيات الجديدة وتداعياتها ، سيقبر الجهاد بأيدي أبنائه، ويقصم ظهر الحركة الإسلامية ويشوه صورة الإسلام لمدة طويلة.

فكان لا بد من تفكير عميق، واستخارة صادقة، واستشارة جادة بغية إيجاد حل ينقذ الموقف، يفرق الناس بعده بين الحق والباطل، ويميزون الخبيث من الطيب، ويضع حداً للأهوال والكوارث التي كادت تأتي على الأخضر واليابس.

عندئذ .. قررنا اعتماد استراتيجية واضحة صريحة لا غموض فيها ، نسعى من خلالها الوصول إلى صلح يؤدي إلى السلم الذي يحقق الأمن والاستقرار ، اللذين يضمنان بدورهما الاستقلال والسيادة والوحدة الوطنية، أين تسمح الظروف بإصلاح الدولة الوطنية دون تكسيرها، وتقويتها وفق المبادئ والتعاليم الإسلامية الراقية السمحة، حيث تعلو راية الدين، وتُؤمّن النفوس، وتُحفظ العقول ويُنَمى المال، وتُصان الأعراض ، فقمنا بوضع خطة تساعد على تحقيق ما سبق، والتي تقضي خطوتها الأولى ببعث الروح من جديد في الحوار الذي كان قد توقف بين السلطة وقيادة الـ(ج.إ.إ( ، بغية الوصول إلى هدنة مريحة تُبرم مع أصحاب القرار في النظام .

فعملنا على خطين متوازيين:

الضغط على النظام بتكثيف العمليات القتالية.

الطرح العقلاني الصادق المشروع خلال اللقاءات التفاوضية .. وبدأنا مسيرة جديدة متوكلين على الله.

العودة للحياة المدنية ودعوتكم لنبذ العنف منذ عام99 م.. هل ترى أنها وجدت صدى وأحدثت الأثر المطلوب على الصعيد الداخلي في الجزائر وخارجها خصوصاً وسط الجماعات الإسلامية التي تنتهج العنف؟

بعدما وفقنا الله تعالى لإبرام اتفاق الهدنة المبدئي مع النظام في 1997م. استطعنا وبفضل الله أن ندخل في المسعى أهم كتائب الجماعة المسلحة، وأعلنت كل الكتائب التالية أسماؤها التوقف عن العمليات المسلحة.

ففي العاصمة توقفت أكبر الكتائب وأقواها وهي:

كتيبة الكاليتوس، كتيبة الشراربة، إلى جانب تنظيم الفدا.

أما ولاية البليدة فمنها: كتيبة الأربعاء، كتيبة الزبربر، كتيبة مفتاح.

وفي ولاية المدية: كتيبة الدعوة والجهاد وهي أهم كتيبة موجودة في المدية.

وكذلك كتيبة كبيرة في عين الدفلى.

أما في شرق البلاد وغربها فقد التحق كثيرون أيضًا: كتائب ومجموعات وأفراداً. وبعد أن تم الاتفاق النهائي مع النظام وتم الإعلان عن حل الجيش الإسلامي للإنقاذ إلتحق الكثير أيضًا.

ومما لا شك فيه أن التجربة الجزائرية مهما كانت قاسية ودموية أليمة بكل المقاييس ، فإنها جنبت وتجنب أوطانًا وشعوبًا مصائب وأزمات كانت قاب قوسين أو أدنى من وقوعها.

ويقينًا أن أغلب الأنظمة العربية والإسلامية وكذلك الحركات الإسلامية والتحررية ستستفيد كثيرًا من الأزمة الجزائرية ومجريات الأحداث فيها.

ولئن كانت الثورة الجزائرية سببًا مباشرًا في تحرير الكثير من الشعوب إبّان الحقبة الاستعمارية، فبالتأكيد أن المعضلة الجزائرية التي تسبب فيها النظام بظلمه وطغيانه وشاركته الحركة الإسلامية بحماسها وعجلتها، ستكون لا محالة عبرة للآخرين، وستمثل العنصر المؤثر الأهم في الإصلاح الذي ستباشره الأنظمة العربية والإسلامية ومَن على شاكلتها، وستمثل أيضًا العنصر المؤثر الأهم في كل المراجعات التي تقوم بها الحركات الإسلامية ومن حذا حذوها.

نريد منكم وصفاً للحظة التاريخية التي اتخذ فيها الجيش الإسلامي للإنقاذ قراره بحقن الدماء وتجنيب البلاد مزيداً من المآسي والآلام. كيف بدأت الفكرة؟ وكيف كانت ردود الفعل لأعضاء الجيش في القيادة وبقية الأعضاء؟ وكيف عالجتم الموقف؟

كنت قد أشرت في إجابة سابقة إلى الأسباب والدوافع التي جعلتنا نفكر بجد في حل مشرف لجميع الأطراف نحفظ به الجزائر من الانقسام والانهيار، ونبيّض صفحة الإسلام ونتعاون لإصلاح ما فسد، حتى نعيد للدين مكانته، وللوطن أمنه واستقراره، وللشعب حقه وكرامته، وقلت حينها: إن تفاصيل المسيرة تحتاج إلى نشر مقالات وشهادات ووثائق لا يتسع هذا الحوار لذكرها.

وعليه، وبالمختصر المفيد، وحتى يأخذ الجميع صورة ولو مصغرة عن الأجواء التي اتخذنا فيها قرار الهدنة الحاسم، وكذلك الإجراءات التي تسمح بتطبيق القرار في آجاله المحددة. فيجب أن تعرف الحقائق التالية:

- أن أغلب الفتاوى والأحكام التي وصلت إلى المقاتلين وسيطرت على عقول أغلبيتهم في تحديد الموقف من النظام هي الكفر والردة

- فتاوى وأحكام رسخت في أذهان أغلبية المقاتلين تقضي بعدم جواز الحوار والهدنة والصلح مع النظام إطلاقًا، ورفع شعار اللاءات الثلاثة (لا حوار، لا هدنة، لا مصالحة ).

- أغلب القيادات الواعية كانت ترى أن الحوار هو الأسلوب الأسلم للوصول إلى هدنة تُفضي إلى حل نهائي، وبالمقابل لديهم تخوف رهيب من الانقسام والفتنة الناتجة حتمًا جراء اتخاذ القرارات المذكورة.

- الخطر الكبير الذي كانت تمثله القيادات الضعيفة التي لا تستطيع أن تقرّ معروفًا أو تنكر منكرًا ولا تحسن إلا التباكي والمزايدات، بعدما رضيت أن تقود الجهاد وتسيّر الجند على أساس مبدأ– ما يطلبه المستمعون- حبًّا في الظهور والزعامة، ولا أشك أبدًا بأن هذا الصنف هو أكبر خطر يهدد أي حركة من داخلها، كما يعرقل السير الحسن لأي نظام.

- الخوف من الأحكام القاسية الخطيرة [الجبن – النفاق – الخيانة - العمالة – تهمة الانتساب للمخابرات] التي كان يتبناها المقاتلون بكل بساطة وسهولة ضد أي قائد يجرؤ على طرح مواضيع الهدنة والصلح.

كل هذا ..كان يمثل فعلًا موانع كثيرة وحواجز كبيرة ومعارضة قوية في وجه أصحاب الإرادات الخيرة والنوايا الحسنة والآراء الصائبة.

غير أن ثلة من قيادات الجيش تمثل المراكز القوية الحساسة فيه قد علمت أسراره وخباياه وفهمت بعض نفسية المجاهدين ونواياهم الحقيقية الدفينة في أعماقهم والتي -لاعتبارات معينة- لا يجرؤون على إظهارها.

هذه الثلة تعاهدت فيما بينها، وعقدت العزم على الجهر بالرأي الذي تراه صواباً متوكلة في ذلك على الله عز وجل غير مبالية بما يمكن أن يلحقها من أذى أو يصيبها من مكروه، واضعة نصب أعينها موقف أبي بكر وعزمه، يوم قرّر مقاتلة المرتدين رغم مخالفة كبار الصحابة، وسرعان ما عرفوا الحق فوقفوا إلى جانبه، وكذلك كان الحال بالنسبة إلينا فما أن عزمنا وقرّرنا ومضينا حتى انبلج الصبح، وتبيّن الخيط الأبيض من الأسود، وحلت العقد، فاستنارت العقول وطابت النفوس، وجعل الله القبول فإذا المجاهدون يرون في الهدنة نصرًا وفتحًا قريبًا.

أسلوب وممارسات الجماعة الإسلامية يثير تساؤلاً عن نوعية ومؤهلات قيادتها وعن خلفيتهم الشرعية والفكرية؟

يخطئ ويبتعد عن الحقيقة من اعتقد أن الجماعة الإسلامية نشأت من فراغ، ووُجدت بسبب أحداث توقيف المسار الانتخابي، فالجماعة قبل أن تكون حركة مسلحة بعد سنة 1991م، كانت تياراً دعوياً يخالف غيره، بالتصور الشاذ الذي يملكه، والأفكار المتطرفة التي ينشرها، والأسلوب الغريب الذي ينتهجه، وقد سبب دعاتها وعلى رأسهم كمال آسمار في العاصمة والدكتور أحمد في مدينة الوادي، مشاكل كبيرة لمشايخ الدعوة الأفاضل (أحمد سحنون –رحمه الله-، الطاهر آيت علجات، محفوظ نحناح –رحمه الله-، عباسي مدني، محمد سعيد –رحمه الله-، عبد الله جاب الله، علي بلحاج، أحمد بوساق…وغيرهم من الدعاة كثير)، وبدأ يذيع صيتهم ويعظم شأنهم في بداية التسعينيات حيث ظهرت مجموعات كثيرة متفرقة تتبنى فكرة الهجرة والتكفير من حيث تعلم أو لا تعلم، وتدعو إلى إسقاط النظام بالقوة والرّصاص، وتعتقد بأن الانتخابات بدعة منكرة، ووقفت إلى جانبهم مجموعات أقل تشدداً ترى في الانتخابات، وإن كانت جائزة، فلا يمكن أن يُغيّر عن طريقها النظام، واستفاد هؤلاء كثيرًا من فتاوى أصدرها علماء أجلاء معروفون في مصر واليمن والأردن والحجاز، تقضي بعدم جواز الدخول إلى البرلمانات الكفرية.

وحتى لا أخوض في سرد الأحداث التاريخية التي ستعرف في حينها، فإن الرموز والمجموعات التي كونت فيما بعد النواة الصلبة للجماعة الإسلامية المسلحة مع من رجعوا من أفغانستان كانت تحرم العمل الديمقراطي، وتكفر بالانتخابات، ولا ترى وسيلة لتغيير النظام إلا القتال، والخطورة التي يمثلها هؤلاء هي في كونهم يتبنون العمل المسلح ابتداءً، وقد سبق لبعضهم أن خاض تجربة في الفترة 1985-1987م بقيادة مصطفى بويعلي –رحمه الله- غير أنها انتهت بالفشل الذريع لوقوف المشايخ والدعاة ضد الأسلوب المتبع والفكر المتبنى.

وهنا لا بد من الإشارة لأمر غاية في الأهمية يجب ألا نغفله، وهو أن النظام بإلغائه المسار الانتخابي وتنكّره لاختيار الشعب ثم بالقبض على كثير من القيادات الإسلامية، وحل حزب الجبهة الإسلامية للإنقاذ كان قد أقنع وجنّد العشرات بل المئات من الشباب في صفوف المجموعات المذكورة بل وأعطى الشرعية للعمل المسلح من حيث يدري أو لا يدري.

هل تعتقد بأن العنف الذي مورس في الجزائر أضرّ بالحركة الإسلامية الجزائرية عموماً؟

.نعم .. أضرّ ونفع..

أضرّ.. لأنه أعطى الفرصة لقلة قليلة من التغرّيبيين الممسوخين ليحققوا أحلامًا كانت قبل ذلك بعيدة المنال، لجؤوا إلى كثير من بيوت الله فخربوها ودمّروها، وإلى الحانات في كل منعرج ففتحوها، وإلى الميوعة والرذيلة فأشاعوها، وإلى أموال الدولة والشعب فنهبوها، وإلى قيود تحمي القيم والثوابت فكسروها، وإلى الإسلام فألحقوا به كل نقيصة وألصقوا به كل خطيئة، ودعوا إلى الابتعاد عنه جهرًا، والتمكين للعلمانية قهرًا.

ونفع.. لأنه أهدى للإسلاميين عيوبهم وأجبرهم على معرفة قدر أنفسهم، وعلّمهم أن يفكروا في الكلمة قبل أن يتفوّهوا بها، فرب كلمة- لم يُلقَ لها بال- أوردت صاحبها المهالك، وأدخلت الأمة في دوّامة احتار العقلاء كيف يخرجون منها، ولقّنتهم دروساً في المسؤولية والقيادة، وأساليب التسيير واتخاذ المواقف.

ونفعهم أيضًا.. لأنه دفع بالسلطة لفتح المجال واسعًا أمام الأحزاب الإسلامية التي رفضت حمل السلاح واحتضنتها، بل قبلت رسمياً بأن تشاركها في الحكم ضمن الحضور الفعلي داخل مؤسسات الدولة.

ونفع ..لأنه أنصف المخلصين من أنصار المشروع الإسلامي الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه. في أي موقع كانوا، وألزم أبناء الحركة الإسلامية الآخرين مراجعة أنفسهم وتصحيح مناهجهم.

ونفع.. لأنه وجّه إنذارًا شديد اللهجة، ورسم خطوطًا حمراء لكل الحكام المتغطرسين والأنظمة الفاسدة المتعنّتة حتى تعود إلى جادّة الصواب، فتحمي بالحق أوطانها، وتحكم بالعدل شعوبها، وترفع بالعمل الصالح شأنها.

برغم تجربة الجيش الإسلامي في الجزائر والجماعة الإسلامية في مصر وما حصل من مراجعات من قبل قيادات هذين التنظيمين، إلا أن تيار العنف لا يزال له وجود في دول أخرى وما زالت التجربة تتكرر بنفس الطريقة .. برأيكم ما السبب في ذلك؟

ربما، يكون من الخطأ أن نقارن التجربة الجزائرية بالتجربة المصرية، فالأولى تسببت فيها أحداث معلومة محدّدة كانت ستؤدي إلى نفس التراجيديا في أي بلد من البلدان وإن كان خاليًا من الحركة الإسلامية مع الفارق طبعًا.

وأما الثانية فقد كانت تجربة اجتهادية انطلقت من عدم، في عمليات مسلحة محدودة معزولة، قام بها مجموعة من دعاة الجهاد الذين يتبنّون فكر الهجرة والتكفير الذي ظهر في سجون ومراكز التعذيب التي جُمع فيها رجال الإخوان المسلمين وشبابهم إبّان الفترات السابقة في مصر. ومعلوم أن المشكلة عند هؤلاء مرتبطة بالتصورات والأفكار، والأحكام الفقهية، كما أن المراجعة جاءت من زعماء لهم يقبعون داخل السجون.

فلا يمكن المقارنة بحال مع تجربة استطاع أصحابها أن يسيطروا تمامًا أو كادوا في سنة 94-95 على معظم أرجاء البلاد مع اعتراف أجنبي واضح ولكن قدّر الله وما شاء فعل.

ونظن أن الأحداث المتفرقة التي تقع الآن في هذا البلد أو ذاك، وراءها بعضٌ ممن ينتمون أو يتعاطفون مع تنظيم القاعدة، والذي يسعى لضرب المصالح الأمريكية وتواجد جيوشها في أي بقعة من العالم، ومنطقي أن الخليج العربي بحكم احتلال العراق يشكل أهدافًا للتنظيم المذكور.