بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ إِنَّكَ مَيِّتٞ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ عِندَ رَبِّكُمۡ تَخۡتَصِمُونَ ﴾
بهذه الآية ، خاطب الله عز وجل رسوله ﷺ ، وبخطابه ، خاطب النّاس أجمعين .
وتبعا لمقصدها ، أخبرنا ﷺ قائلا : " أتاني جبريلٌ ، فقال : يا محمدٌ ! عشْ ما شئتَ فإنكَ ميتٌ ، وأحببْ منْ شئتَ فإنكَ مفارقُهُ ، واعملْ ما شئتَ فإنكَ مجزيٌّ بهِ ، واعلمْ أنْ شرفَ المؤمنِ قيامُهُ بالليلِ ، وعزَّهُ استغناؤهُ عنِ الناسِ " .
.. اللّهم لا عيش إلّا عيش الآخرة .. ولا حياة إلّا حياة الإيمان .. ولا عزّة إلّا عزّة الإسلام .
فهل أتاكم خبر ثلاثة رجال ؟.. كنا ومازلنا نَعُدُّهم من الأخيار ، قد غيَّبَهُم عنّا ، هذا الفيروس المتحور الغدار .
أخٌ وأخٌ وأخٌ .. أشقّاءٌ ثلاث ، من عائلة أبو بصير ، ماتوا تباعا .. وقدكانوا يعيشون في عزّ وأمان ، وكرامة وسلام .
أكبرهم التّركي ، هكذا نُسَمِّيه .. وأوسطهم عبد القادر ، هكذا نكنِّيه .. وأصغرهم عبد الهادي ، هكذا نناديه .
الأكبر والأصغر ، كانا تاجرين يأتيهما الرّزق من كل مكان .. والأوسط ، كان أستاذا يربي ويُعلِّم الفتيات والفتيان .
ولأنَّهم من أبناء المسجد ، وأنصارٌ لدعوة المصطفى المختار ، فقد مسَّهم الضر والأذى ، مع إخوانهم المناضلين الأحرار .. فمنهم من ضُيِّق عليه في عيشه ، ومنهم من طُرِد من عمله ، و منهم من لوحق وتوبع بتهمة المساس بالأمن وإثارة الفوضى ، والتمرد والعصيان .
وعلى إثر ذلك ، لجأ إلى الجبال اثنان .. وبقي واحد ، يرعى النِّساء والولدان .
أما الأكبر ، فقد عاش كئيبا محزونا يتعذب ، بعد اختطاف ابنه لسنوات ، إلى أن سجل مفقودا ، فمقتولا ، بشهادة شخصين .. ووثيقة الوفاة .
وأما الآخران ، فناضلا في صفوف الجيش الإسلامي للإنقاذ أعواما معدودات ، ثم عادا إلى بيوتهم بعد المصالحة وتوقيف القتال ، ليفتحا صفحة جديدة ، ويستأنفا الدعوة والنضال .. وكذلك الحياة .
وما إن عادوا جميعا إلى بيوتهم واطمأنوا ، حتى شمروا عن ساعد الجد ، فرتبوا أمورهم ، وخرجوا إلى مواطن العمل وأسواق التجارة ، يسعون السعي الحميد ، في طلب الرزق بالعمل المفيد .. ولم تمض إلا أعوام قليلة ، حتى فتح الله عليهم باب الرزق واسعا ، وجمع لهم خيري الدنيا والآخرة .. المال والاستقامة .
ولأن قلوبهم معلقة بالمساجد ، وحياتهم مرتبطة بالمآذن والمعابد .. فقد قرروا تخصيص أرض ، ورثوها عن أبيهم ، لبناء مسجد يجتمع فيه أهل الإيمان ، ويلتقي فيه الإخوان والجيران ، وتقام فيه الصلاة ، ويرفع فيه الآذان ، ويخطب فيه الإمام .. فنظموا أنفسهم ووزعوا المهام ، ثم تواصلوا مع الخيرين في كل مكان ، ومضوا جميعا لتحقيق حلم راودهم من زمان .
ولأن الله يبارك مثل هذه المبادرات ، ويضاعف الحسنات ، ويرفع الدرجات ، ويثبت الخطوات .. فقد تم لأهل الخير ما أرادوا ، وفرح أهل الحي والبلدة جميعا وأشادوا ، ورفع المؤذن الآذآن ، وصلى المصلون خمسهم وقرؤوا القرآن ، وخطب الإمام ، ووعظ الناس وذكرهم ، وقال : الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، والحمد لله على نعمة الإسلام والإيمان والأمان .. فمن أفضل ممن فكر ودبر ، وعزم وقرر ، وساهم في بناء بيوت الله وعمر .. وصدق الله العظيم القائل :
﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرۡفَعَ وَيُذۡكَرَ فِيهَا ٱسۡمُهُۥ يُسَبِّحُ لَهُۥ فِيهَا بِٱلۡغُدُوِّ وَٱلۡأٓصَالِ ۞ رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَٰر﴾.
إنها والله لخصلة من خصال الجزائريين محمودة ، وصفة من صفات أغنيائه وفقرائه محبوبة .. كيف لا ، والرسول ﷺ يقول :
" من بنَى مسجدًا للهِ ولو كمَفحَصِ قَطاةٍ ، بنَى اللهُ له بيتًا في الجنَّةِ " ، وقال أيضا : " إنَّ مِمَّا يلحقُ المؤمنَ من عملِهِ وحسناتِه بعدَ موتِه ، عِلمًا علَّمَه ونشرَه ، أو ولدًا صالحًا ترَكَه ، أو ومُصحفًا ورَّثَه ، أو مسجِدًا بناهُ ، أو بيتًا لابنِ السَّبيلِ بناهُ ، أو نَهرًا أجراهُ ، أو صدَقةً أخرجَها ، من مالِه في صِحَّتِه وحياتِه ، يَلحَقُهُ من بعدِ موتِهِ " ...
صدق الله العظيم وبلغ رسوله الكريم ونحن على ذلك من الشاهدين .. وبحمد الله على آلآئه ونعمه ، وبشكره على أفضاله ومننه ، انتهت خطبة الإمام .
فرحمة الله على الإخوة أبو بصير ، الأخ مسعود أبو المفقود ، والأخ الحسين أستاذ البنات والبنيين ، والأخ احسن التاجر المحسن .. رحمهم الله برحمته الواسعة ، وتقبلهم في الصالحين ، وأسكنهم أعلى عليين ، وحشرهم في زمرة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .. إنا لله وإنا إليه راجعون .. اللهم ارزق أهلهم وذويهم ، الصبر والسلوان والتقوى والإحسان والثبات على طريق الإسلام ...
اللهم ارحم موتانا ، واشف مرضانا ، ومتعنا بالصحة والعافية ، وارزقنا الإيمان واليقين ، والثبات على الصراط المستقيم ... آآآميين .
وإذا كان الموت حقيقة لا نقاش فيها ، ونهاية لا شك فيها ، ومصيرا لا مفر منه ..
فإن الحياة حقيقة نعيشها ، بأفراحها وأتراحها وحلوها ومرها ، ومطية نمتطيها ، بليلها ونهارها وشهورها وأعوامها ، وعمر نقضيه ونبليه ، وفي الخير أو الشر نفنيه وننهيه ..
وصدق رسول الله ﷺ : " خَيْرُكم مَن طال عُمْرُه وحَسُنَ عَمْلُه " ، ثم زاد على ذلك قائلا : " إن قامتِ الساعةُ و في يدِ أحدِكم فسيلةً ، فإن استطاعَ أن لا تقومَ حتى يغرِسَها فليغرِسْها " .
ورحم الله الإمام عليا ورضي عنه وأرضاه إذ يقول :
اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا .
... والنفس بطبعها ، تكره الموت وتحب الحياة .
فإذا كانت أخبار الموت ، بمصائبها وأحزانها ، قد كثرت هذه الأيام .. فإن أخبار الحياة ، ببشائرها وأفراحها ، كثيرة لا تكاد تحصر ، وعديدة لا تكاد تحصى .
والفأل يطرد الشؤم ، والأمل يغلب اليأس ، والرجاء يحاصر الخوف .. واليقين في الله يقطع الشك ، ويقضي على الهواجس والوساوس والضنون .
ولعل هذه المقطوعة ، التي كتبناها سابقا ، تؤيد ما ذهبنا إليه ...
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ﴾
الحياة .. هبة الله لعباده .. ونعمته على خلقه أجمعين .
.. فالذين يفنون أعمارهم في طاعة الله ، بالعبادة والذكر .. وتعمير أرضه وخدمة عباده ، بفعل الخير والعمل الصالح .. يجزون الجزاء الأوفى .. ويكرمهم ربّهم بسعادتي الدنيا والآخرة .
والمنشغلون عن الله بغيره .. يموتون كمدا وحسرة .. فلا ينفعهم مال .. ولاأهل .. ولاجاه .
والشّكوى لغير الله مذلّة .. ولامفرّ من الله إلاّ إليه .
وقد جاء في الحديث القدسي " عبدي .. أنت تريد وأنا أريد .. فإنّ سلّمت لي في ما أريد ، أكفيتك ماتريد .. وإن لم تسلم لي في ما أريد ، أتعبتك في ما تريد ، ولن يكون إلاما أريد " .
ويرحم الله أبا القاسم الشابي :
خُذِ الحياة َ كما جـاءتكَ مبتسمـاً | في كفِّها الغارُ ، أو في كفِّها العدمُ |
وارقصْ على الوَرِد والأشواكِ متَّئِداً | غنَّتْ لكَ الطَّيرُ ، أو غنَّت لكَ الرُّجُمُ |
واعمل كما جاءت الدنيّا بلا مضضٍ | والجم شعـورك فيها ، إنـها صنـمُ |
فمــن تألّم ، لــن ترحم مضــاضتهُ | وَمَــنْ تجلّـدَ ، لم تَهْـزأ به القمَـمُ |
فما السّعـادة في الدّنيـا سوى حُلـم | نــاء ، تضحي له أيّــامها الأمــم |
هذي سعادة ُ دنيانا ، فكن رجلاً | إن شئْتَهــا أبَدَ الآبــاد تبْتَسِـمُ |
فسعادة الدنيا إذن ، أحلام ..
والأحلام ، تحيي الأمل في النفوس .. والأمل ، يعين صاحبه على الحياة .. واستمرار الحياة ، يسمح بتحقيق الكثير من الأماني .
نعم .. الأحلام جميلة .. وأجمل منها .. الأحلام الواقعيّة ، والأماني الممكنة التّحقيق .. وأحسن منهما وأصدق .. الإرادة القويّة ، والعمل الجادّ ، مع الصبر الطويل .
وقبل ذلك كلّه .. إيمان بالله ويقين ، وتوكل على الله بعد عزم متين ، وطمع ورجاء في الله المعين .
ثم قبول بقضاء .. ورضاء بقدر .. وخضوع لإرادة الله القدير الأقدر .
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" يا غلام ، إني أُعلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سأَلت فاسأَل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأُمة لو اجتمعت على أَن ينفعـوك بشيء ، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف " .
فياعباد الله .. تفاءلوا ولا تتشاءموا ..
إن التشاؤم داء ، يدمر حياة المتشائمين .. وهو تفكير سلبي ، يدفع الناس لليأس والقنوط ، ثم يقتلهم حسرة وكمدا .
والفأل الحسن ، تفكير إجابي ، يفتح أبواب الأمل والفرج .. وخطوة ، على طريق النجاح والفلاح .. ودواء ، يبعث في المتفائلين الحياة .
.. وماأجمل هذه الأبيات ، التي أعتبرها أحسن تفسير ، لتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو ينهى المسلمين عن التشاؤم ، ويدعوهم للتفاؤل .. قال الشاعر إليا ابو ماضي :
أيـّها المشتكي ومــا بــك داء | كـــيف تــغدو اذا غــــدوت عليلا |
إنّ شــر النّفوس نفس يئوس | يتمنـّى قبل الرّحيل الرّحيـلا |
ويرى الشوك في الورود ويعمى | أن يرى فـــوقها الــندى إكليلا |
هــو عبء عـلى الحـياة ثـقــيل | مـن يرى في الحـياة عــــبئاً ثقيلاً |
والـذي نـفــسه بغـــير جـــمال | لا يــرى في الوجـود شيئاً جميلا |
كـــن هزاراً في عشه يتغـــنى | ومـع الكــبل لا يبال الكبولا |
لا غـراباً يطارد الدود في الأرض | وبـــوماً في اللـيل يبكي الطلولا |
كن غديراً يسير في الأرض رقراقا | فيــسقي من جانــبيه الحـقولا |
كــن مع الفجر نسمة توسع | الأزهار شـــماً وتارة تقبيلا |
أيّها المشتكي وما بك داء ! | كن جميلا تر الوجود جميلا |
اللهم إنا نسألك صحة في إيمان ، وإيمانا في حسن خلق ، ونجاحا يتبعه نجاح يتبعه فلاح ، ورحمة منك ، ومفغرة منك ، ورضوانا .. آآآآميين .