حقائق ومواقف و تصوّر 1

نُشر هذا المقال في بداية 2003 في كثير من الصحف الوطنية.

                                                 بسم الله الرحمن الرحيم

ثلاث سنوات مرّت ، على نهاية العمل بقانون الوئام المدني ، الذي أحدث جدلا واسعا ، في الأوساط السياسية خاصة ، والإعلامية عامة .. القانون الذي رفضناه حينها بقوّة ، لأن مواده في مجملها ، وُضعت للمجرمين الدمويين الخارجين عن الحق ، ونحن لسنا كذلك أبدًا .. بل مسلمون غيورون ، ظُلِمنا واعتُدي علينا ، ودُفعنا إلى الجبال دفعا ، فكانت الحرب .. خضناها كرهًا ، وقلوبنا تذوب حُرقة على الجزائر وأبنائها ، وحسبُنا أنها كانت من جانبنا رجولية شريفة ، شهد بذلك العدو قبل الصديق ، والبعيد قبل القريب .
.. رفضنا ذلك ، يقينا منّا أن الدماء الزكية التي سالت ، والنساء اللائي رُمّلن ، والأطفال الذين يتّموا ، كانوا تضحيات قدمناها وتحملنا آلامها ، في سبيل الله وحده ، دفاعًا عن حرمة الدين وقداسته ، وانتصارا لخيار الشعب وسيادته ، وغيرة على تاريخ الوطن ومكانتة .
و أمام الرفض القاطع من جانبنا ، عمل أهل الحل والربط في السلطة ، على إقحام المادة 38 مكرّر ، التي أحدثت صخبا إعلاميًا كبيرا ، ونقاشا سياسيًا واسعا ، و رغم ذلك لم نقبل .. إلى أن قرّر الرئيس ، إصدار المرسوم القاضي بالعفو ، عن كل رجال الجيش الإسلامي للإنقاذ ومن تعاون معهم .. فقبلنا ذلك على مضض ، تنازلًا منا في سبيل الله ، من أجل الإسلام كي لا يُقبر ، والجزائر حتى لا تضيع ، والشعب أن لا يُهلك .. كان ذلك ، بعدما تأكدنا أن الأمور تزداد تعقيدًا ، والأوضاع تعفّنا واحتقانا ، والكلّ ماضٍ نحو المجهول . 

ولأن طلاسم المحنة ، يستدعي فكّها خطوات عديدة متتالية ، تبدأ بقبول العفو ، وتنتهي بالمصالحة الوطنية الشاملة ، التي آمنّا بها ، ودعونا إليها ، وعملنا المستحيل من أجل تحقيقها ، وسنؤيد ونؤازر بعون الله ، كل من حمل صادقا لواءها .

ثلاث سنوات .. انقسم الناس فيها بين مؤيّد ومدعّم ، وبين مهاجم ومحارب للقانون المذكور ، الذي أحدث كلّ هذه الهزة وهذا اللغط ..

ثلاث سنوات .. حتّمت علينا أن نبيّن ونوضّح ، وأن نضع نقاطا على حروفها ، وأخرى على رؤوس المزايدين المشككين ..

أما بعض ساسة الجبهة الإسلامية للإنقاذ ، غفر الله لهم ، فقد ذهبوا في فهمهم المريب ،  للعمل المنجز ، على أنه تجاوز صارخ للسياسيين ، وسحب للبساط من تحت أرجل الشيوخ .. نعم ، الشيوخ الذين علم الله ، أننا عملنا المستحيل من أجل تبرئتهم ، وإطلاق سراحهم وتشريفهم .. وقد ضخّم طرح هؤلاء الساسة ، بعض الأقلام المغرضة ، نسأل الله الهداية للجميع .

وأمّا دعاة الاستئصال ، سدنة حزب فرنسا ، فلم نسمع منهم إلا التنديد والوعيد ، بالعفو الخاص الذي أصدره رئيس الجمهورية ، في حق أفراد الجيش الإسلامي للإنقاذ .. هذا الموسوم الذي يعتبرونه خطأ قاتلا ، وانحرافا كبيرا في مسار السلطة ، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك ، فأعلنوا وأكدوا ، أن قانون الوئام المدني قد انتهى يوم 13 جانفي 2000 ، ولا مجال لأي حلّ آخر من هذا القبيل .. فالقتل القتل ، والهدم الهدم ،  شعارهم الذي رفعوه ، وباطلهم الذي نصروه .

وأما الفريق الثالث ، فيمثله رئيس الجمهورية ومن آمن بسياسته وسار في ركبه ، وأيد المشروع  الذي قدمه ، لإخراج البلاد والعباد من النفق المظلم .. هذا الفريق الذي اعتقد صادقا ، بأن الوئام المدني ، خطوة لابد منها على طريق المصالحة الوطنية الشاملة ، التي لا يمكن لأمور الجزائر أن تستقر أو تستقيم بدونها ..

وإذن ، فهي ثلاث فرق رئيسية ، يمكن لنا أن نتكلم عنها بشيء من الوضوح والتدليل ..

فالفريق الأول ، وإذ استثنينا منه فئة قليلة ، ممن دفعتهم الغيرة على المشروع والحرص على نجاحه ، فأخطأوا بحسن نية ، و أصدروا أحكاما  جزافية ، في حق الرجال الشرفاء ، الذين اختاروا المصالحة والسلام ، بدلا عن المجابهة والخصام .. إذا استثنينا هذه الفئة القليلة .. فإن الباقي لا يعدو أن يكون ، إلا مكابرا ، أو معاندا ، أو مزايدا ، أو مضلّلا ، أو كاذبا .
وإلا كيف نستطيع أن نفهم ، بعضا من التصريحات المنشورة ، باسم مسؤولين كبار في الجبهة الإسلامية ، يوهمون فيها الأتباع خصوصًا ، والرأي العام عموما ، أنهم عرضوا علينا الهدنة سنة 1994 فرفضناها ، ثم قبلناها سنة 1997 ، من غير عودة إلى الشيوخ ومشورتهم .

وللتاريخ نقول ..
.. بعدما غير المطبّلون وِجهَتَهُم ، والمتزلفون ألبستهم ، والمندسّون أقنعتهم ، والمغالطون قناعاتهم ، والذين يحسبون أنفسهم أذكياء خططهم ، إثر بيان الوحدة المشؤوم في ماي 1994 .. البيان الذي جعل  الجبهة بعد ذلك أثرًا بعد عين ، وشيوخها مجرد أعضاء شرفيين ، في مجلس شورى جماعة دموية منحرفة ، وبشرط التوبة ، من بدعة الإنتخابات الكفرية ، وجريمة العمل السياسي ، على حدّ زعمهم وفساد رأيهم .
نعم .. بعد كل هذه المحنة ، والفتنة التي لا يصمد في وجهها ، إلّا من ثبّته الله وقلبه مطمئن بالإيمان ..  خرج قادة الجيش الإسلامي للإنقاذ ، غير مبالين بالأخطار المحدقة بهم من كل جانب ، فصدعوا بالموقف التاريخي ، الذي جدّد للجبهة حياتها بعد أن وُئدت ، وأعاد للشيوخ مكانتهم القيادية بعد أن سُلبت منهم ، وأرجع للتيار الإسلامي والحركة الجهادية شرفها وطهارتها ، بعد أن أُلقي بها في مستنقع الهجرة والتكفير والتضليل ، وفتاوى قتل الشيوخ والولدان ، وسبي الصبايا والنسوان .

كما أنّنا نذكّر ونقرّر ، أن كل المحاولات التي قامت بها قيادة الجيش الإسلامي للإنقاذ ، سواء مع قيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ ، أو مع السلطة ، كانت كلّها تصبّ في وعاء المصالحة ، وذلك بتشجيع الطرفين على الحوار والتفاوض ، وإزالة العقبات من طريقهما .

أما الإدعاء المصرّح به ، المنشور في قضية مشروع هدنة 1994، فلمن يهمّه الأمر ، نكشف عن هذه الحقائق الساطعة ، كالشمس في كبد السماء .
اتّصل بنا أخوان من قيادة الجبهة الإسلامية ، وطرحا علينا مشروعا من عدة نقاط ، من ضمنها موضوع الهدنة ، وطلبا منا إبداء رأينا فيه ، فأعطيناهما الموافقة على المشروع ، وشجعناهم على ذلك أيّما تشجيع ، وقد سمعنا منهم ورأينا في وجوههم ، كل الرضى والقبول .. إلّا أننا لمسنا منهما يومئذ ، تخوفا من مهمّة القيادي الثالث ، الذي كلّف بطرح المشروع على قيادة  " الجيا " .
ومع الأسف ، فقد كان تخوفهما في محلّه ، إذ عرفنا منهما فيما بعد ، أن المبعوث ، التقى بالشيخ محمد السعيد ، رحمه الله ، فوجده شبه معزول لا حول له ولا قوّة ، ثم التقى بأمير الجماعة آنذاك ، أبو عبد الله رحمه الله ، فأصابه الذعر والذّهول ، من هول الأسئلة التي أمطره بها أمير الجماعة ، حول الموقف من الجهاد ، والحكم على النظام … الخ . 
 .. و قد أحجم المسكين ، حتى عن طرح المشروع تبليغا للأمانة ،  وعاد بتقرير شفوي من قيادة الجماعة ، نقله إلى الشيخ علي بلحاج ، حفظه الله وعجّل بإطلاق سراح ، ثم بعد ذلك إلى الأخوين .. مفاده ، أن الجماعة تسيطر على 46 ولاية ، وتملك من الأسلحة الشيء الكثير ، وهم يقولون ، بأنهم قاب قوسين أو أدنى من إسقاط النظام … وهكذا ذهب مشروع الهدنة ادراج  الرياح .
وحتّى لا يُفهم منّا ، أن الشخص المقصود ، قد اقتنع بطروحات الجماعة أو أيّدها ، نقول : إن الشخص المذكور والحرب لا يلتقيان ، إلا بإذن الله كما يقول الأزهريون .. وللتاريخ ، فإن الإخوة في منطقة الوسط ، عرضوا عليه في تلك الآونة ، الإلتحاق بالجبل وتولّي القيادة ، فتردّد أولا ثم أبى .. وقد تبيّن لنا فيما بعد ، أنه وأمثاله لا يؤمنون بما يسمّى عنفًا ، بل لا يقبلون إلّا بالعمل السياسي السّلمي .. وأقف عند هذا القدر .

هذا شيء مما يخص الفريق الأول ، وستتوالى مقالات أخرى ، ترفع اللّبس عن كثير من القضايا ، نتحرّى فيها بإذن الله ، قول الصدق بالحجج والدلائل ، وشهادة الحق بالشواهد والبينات .. ﴿ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ ﴾ .
 وستقرأون ، عن الفريق الثاني والثالث على التوالي ، فيما يُستقبل من الأيام إن شاء الله تعالى .

.. وتزامنًا مع هذه الشهادة ، نضع بين يدي القارئ ، وثيقتين : إحداهما رسالة إلى الرئيس زروال ، والأخرى إلى الشيخ عباسي ، أطلق الله سراحه ، وكلتاهما أرسلتا في شهر فبراير 1997، الأولى مع مبعوث السلطة ، والثانية مع الأخوين المذكورين فيها .. وللعلم ، فإن رسالة الشيخ عباسي لم تصله في أوانها ، وذلك إثر قرار السلطة المفاجئ ، بتلبية أحد شروطنا لأي هدنة محتملة ، والمتمثل بإخلاء سبيل الشيخ عباسي مدني وخروجه من السجن .
                                                                                                 مدني مزراق
ملاحظة:
كتبنا هاتين الرسالتين ، في وقت ، كان أغلب المتبجّحين اليوم ، يرون  مثل هذه الآراء والمواقف ، مغامرة لا تُؤمنُ عواقبها ، ومجازفة تعرض صاحبها ليحكم عليه بالرّدة والكفر أو الخيانة .. إلا أن الله يمهل ولا يهمل .. ورحم الله الإمام مالك رضي الله عنه : ” ما كان لله دام واتصل ، وماكن لغير الله انقطع وانفصل “ .