نُشر هذا المقال في في 07 من ذي الحجة 1423هـ الموافق لـ 08 فبراير 2003 م في كثير من الصحف الوطنية. وهو تكملة لمقال سابق نُشر قبله.
بسم الله الرحمن الرحيم
سبق وأن كتبنا ، عن بعض الخطوات التي قطعناها ، في أمر الهدنة والوئام والمصالحة ، ولعلّ ماكتبناه قد أحدث ارتياحا لدى البعض ، واضطرابا لدى آخرين ، لكنه قطعا ، ونحن متيقنون ، بأن المقال قد رفع كثيرًا من اللبس والغموض ، ودحض كثيرًا من الإدعاءات والأكاذيب ، وأعلم الجميع ، أننا ما تقدمنا شبرًا إلّا بعد الإستخارة والمشورة ، وأننا لم نتجاوز أحدا ، كان يجب علينا أن نأخذ برأيه ، أو نذعن لأمره .. وحتى يرتاح الكثير ، ويضطرب الكثير أيضا ، ها نحن نعود ، في وثيقة أخرى ، وليس أخيرة .. رسالة إلى الشيخ الفاضل ، والعالم الكبير ، والكاتب الشاعر أحمد سحنون ، أطال الله في عمره ، ونفع به ..
ولئن كنا من الشح بمكان ، في تبيين الأمور وسرد الوقائع ، فإننا على يقين ، بأن القليل الذي نُشر كافٍ شافٍ في هذه المرحلة ، إيمانا منّا ، بأن الضوابط والأخلاق التي تحكم العمل الجاد ، لا تسمح بالخوض في مثل هذذه القضايا الحساسة ، إلّا بالقدر الذي يصلح ولا يفسد .
.. أما الفريق الثاني ، فإننا نعتقد جازمين ، أنه سبب كل البلاوي والمحن التي لحقت الجزائر ، حكومة وشعبا ، ليس على مدار العشرية الأخيرة فحسب ، بل منذ اندلاع ثورة التحرير المباركة ، إلى يوم الناس هذا .. ويصدّق ويدعّم ما نقول ، شهادات الرجال التاريخيين للثورة ، التي تتوالى وتنشر وتُذاع .
فلا شك ، أن مؤامرات حزب فرنسا ، هدفها إبعاد الجزائر عن محيطها الطبيعي العربي الإسلامي ، ورميها في المستنقع العلماني اللائكي التغريبي الصهيوني .
وإن نسينا فلن ننسى ، ما قاله سعيد سعدي ذات يوم للشيخ عباسي مدني ، حفظه الله وأطلق سراحه ، في حصة تلفزيونية ، كان يديرها الصحفي القدير "مدني عامر" .. قال له وأمام الملأ ، وعلى المباشر : ” لن نسمح لكم بالوصول يا عباسي “ ..
وكم كنا أغبياء ، حين ظننا أن التحدّي ، ما هو إلا شطحة لمراهق سياسي مأجور ، وغاب عنا ، أن المتبجح بتلك الكلمات ، هو ناطق رسمي لأخطبوط خطير قاتل ، متحصّن داخل كهوف المؤسسات الاستراتيجية للدولة الجزائرية ، علم سرّها ، وسيطر على مراكز القرار فيها .
ولم أفهم شخصيا ، ما تفوّه به على الوجه الصحيح ، إلا بعدما أوقفوا المسار الانتخابي ، وهجموا علينا ذات صباح من شهر فيفيري عام 1992 بالمقرّ الوطني للجبهة الاسلامية للانقاذ ، ثم ساقونا إلى مخفر للشرطة يسمونه " كافينياك " .
وأنا قابع مع بعض الإخوان في شبه زنزانة ، سمِعتُ أحدًا ممن يمثلون امتدادًا للأخطبوط المذكور يقول لصاحبه : هل لديك رصاص زائد ؟! فقال الآخر : ولم ؟ قال أريد أعيّد ، فقال له صاحبه : كفى لقد عيّدت البارحة !..
عرفت عند ذلك ، من كان يطلق النار على جموع المتظاهرين بالذخيرة الحية ، فتزهق الأرواح ، ويسيل الدم الجزائري الفّوار .. و الدّم الجزائري من الحرارة بمكان .. إذا سال ، جرف وأحرق بعد ذلك كلّ شيء .
وقد كان المكلفون بمكافحة الشغب ، من أجهزة الشرطة والدرك ، مدعّمين ببعض وحدات الجيش ، يحاولون جهدهم تفريق الجموع ، ومنع المسيرات ، باستعمال القنابل المسيلة للدموع والرّصاص المطاطي ، فيُحدث ذلك صخبا وفوضى ، ممّا يسهل على القتلة المحترفين المهمّة ، فيقتنصون من العزّل من أذنت ساعته .
والصّحيح عندنا ، أنّ هؤلاء القتلة ، أفراد ينتمون إلى زمر صغيرة مبعثرة ، داخل الوحدات المذكورة ، تكوّن مجتمعة – الزمر – كتائب الموت التي سمع عنها الناس الكثير … وبهذا الأسلوب الشيطاني ، يحققون ثلاثة أهداف رئيسية :
- يقتلون دون أن ينتبه إليهم أحد ، وبذلك يفلتون من المتابعة والعقاب .
- يقضون على العناصر النشطة التي تؤطر المسيرات والمظاهرات .
- يوقعون العداوة والبغضاء ، بين قوات الأمن من جهة ، وأفراد الشعب من جهة ثانية ، إذ كلما سقطت نفس ، إلا وازداد الكره والحقد ، والمطالبة بالثأر و الإنتقام .
ونحن لا نستبعد أبدًا ، أن يكون وراء سقوط البعض ، من أفراد قوات الأمن في تلك الأيام ، هو رصاص الزمر الملعونة تلك .. ولعلّ السيارات ، التي كانت تطلق النار على الشعب أيام الإضراب المشهود ، لخير دليل على مانقول ، وما ذلك عن أذهان سكان العاصمة ببعيد ..
وتوالت الأحداث وتسارعت .. ودخلت البلاد في حرب حقيقية ، الرّابح فيها خاسر ، والمنتصر فيها منهزم ، والغالب فيها مغلوب .. لأن الذي خطط لها ، ودفع إليها ، إنما قصد الانتقام من الجزائر ، تاريخا ولغة ووطنا وشعبا .
واليوم .. وبعدما تفطن أبناء بررة ، في مختلف المواقع ، للمؤامرة التي حيكت ودبرت ، وكادت أن تأتي على الأخضر واليابس .. وبعد مابذلوا ما في وسعهم لوقف النزيف ، وتعطيل آلة الدمار ، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه ، حتّى أصبح النّاس آمنين في بيوتهم ، مطمئنين على أموالهم وممتلكاتهم ، في أغلب مناطق الوطن .. وبدأت البلاد تستعيد عافيتها ، شيئا فشيئا .. بعد كل هذا ، يخرج علينا دعاة الإستئصال ، في مؤتمرهم الدولي " لمكافحة الإرهاب " ، ليلقوا محاضرات مطوّلة ، يفتخرون فيها بالانتصار المزعوم ، ويستعرضون فيها التجربة المشينة ، وقد نسي الجبناء أو تناسوا حالهم قبل ثلاث سنوات ، حيث ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وضاقت عليهم أنفسهم ، واختنقت أنفاسهم ، وهم ينتظرون على أحرّ من الجمر ، ما ستسفر عنه المفاوضات بين الشجعان البواسل ، الذين عجزت المعارك الطاحنة ، أن تحسم الأمر بينهم .. نسوا كل ذلك ، أو لعلهم تناسوه .. وقد يئسوا يوما ، من مغادرة المحميات ، التي كان يحرسها أبناء هذا الشعب المسكين ، من الجيش والدرك والشرطة .
نعم ، أبناء الشعب المسلم المستضعف ، من إخواننا وأقاربنا وأصحابنا .. كثير منهم ، كانوا يؤدّون الصلاة ، وكثير منهم شريفة بيوتهم .. يُقتَلون ونُقتَل ، برصاصنا ورصاصهم .. وأشباه الرجال ينتظرون داخل المحميات ، وقد نغّص الخوف عليهم حياتهم .
وكنا قد انتبهنا لهذا باكرا .. فرفعنا صوتنا عاليا في شهر أفريل 1995، ندعوا الغيورين إلى التحرك قبل فوات ، قائلين في بيان لنا :
” إننا نرفع صوتنا مجلجِلًا ، ونداءنا مدويا ، داعيا الغيورين على الدّين والشعب والوطن ، في أيّ موقعٍ وُجدوا ، وعلى أيّ ثغرٍ كانوا ، أن يهبّوا ويتحرّكوا من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه ، ويقطعوا الطريق على الاستئصاليين ، الذين يدفعون المستضعفين من أبناء الشعب ، إلى الموت في سبيل تحقيق مآرب فرنسا وأتباعها في هذا الوطن .. هؤلاء المستضعفون ، الذين يدفعون الثمن نيابة عن الإستئصاليين ، بسقوطهم قتلى في الميدان بالمئات .. لكنّنا نكره الترويج لأخبار القتل ، الذي اضطررنا إليه ، وأُكرِهنا عليه .. استقباحا منا للتلذذ بعذابات الشعب ، وجراحات المستضعفين ، الذين لم نجد من بينهم في معركة من المعارك ، أو كمين من الكمائن ، أبناء الناعقين الناعبين بضرورة استئصال الإرهاب من الجذور …“
فإذا كان الأمد قد طال على الإستئصاليين ، رغم قصر المدّة ، فأصيبوا بمرض فقدان الذّاكرة ، فإنّنا نُسمعهم ، مرة أخرى ، على لسان الشاعر :
لئن كنتُ محتاجا إلى السِّلم إنّني | إلى الحرب في بعض الأحايين أحوجُ |
ولي فرسٌ للحِلمِ بالحِلمِ مُلجَم | ولي فرسٌ للجهل بالجهل مسرجُ |
فمن شاء تقويمي فإنّي مقَوَّمٌ | ومن شاء تعويجي فإني معوجُ |
.. ثم بماذا يتباهى الإستئصاليون؟!
أ بالحرب التي أضرموها ، وأجبرونا على ولوجها ؟!. فالشرّ بالشر ، والبادئ اظلم .
أم بالسِّلم الذي فرضناه عليهم ، فدخلوا فيه رغم أنوفهم ؟!. فالخير بالخير والبادئ أكرم .
أم يفتخرون بالأموال العمومية التي نهبوها وبدّدوها ؟!. ففضائح البنوك شاهدة .
أم بالفقر المدقع الذي أوصلوا الشعب إليه ؟!. فنتائج سوء التسيير والإهمال يعرفها الجميع .
أم أعجبتهم حالة الشباب الذي قضى على أمله اليأس ؟. فمال إلى الحانات يعمرها ، وإلى أماكن الفساد يرتادها ، وإلى المنكرات يأتيها .. لكن ، كيف لا يحلو للاستئصاليين ذلك ، وهم من عمل خلال عشرية الدم والدمار ، على فتح الحانات والملاهي ، في كل منعرج وفي كل سبيل ، ليصدّوا عن سبيل الله .
أم سرّهم انتشار الفسق والفجور والرذيلة ، وعنوسة حوالي 10 ملايين من بناتنا ، حسب الاحصائيات الأخيرة ؟.
أم راقتهم طوابير البطالين ، والعمال المسرّحين ظلما وعدوانا ؟.
أم بالمساجد التي هدموها ، ومنعوا السّاجدين أن يعمروها ؟. ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا ﴾ .. اللهم لا أحد أظلم ممن اقترف كل هذه الموبقات .
.. ولعلنا قد أطلنا .. والحديث ينسي بعضه بعضًا .
وبقي لنا ، أن ننبّه " النورانيين " من أبناء المجتمع المفيد ، لعلهم يستفيقوا ، ونذكر الظلاميين وعامّة الشعب المقهور ، لعل الذكرى تنفعم ، و الذكرى تنفع المؤمنين ، ونحن على بعد يومين من عيد الأضحى المبارك ، ونقول لهم : أن الأضحية التي سيتمتعون بلحمها ، هي قربان لله تعالى ، إحياء لسنّة الخليل إبراهيم عليه السلام ، الذي وصّى بنيه ونحن جميعا منهم .. ﴿ وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ ، واختار لنا الله سبحانه أن نتبع ملته .. ﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ .
فمن آمن واتبع فقد اهتدى ، ومن نكص وتولى فسيكفينا الله شرّه بما شاء وكيف شاء .. ﴿ فَإِنْ آَمَنُوا بِمِثْلِ مَا آَمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ .
اللهم اجعلنا هادين مهديين ، غير ضالّين ولا مضلّين ، سلما لأوليائك ، حربا على أعدائك ، نحب بحبّك من أحبّك ، ونعادي بعداوتك من عاداك .. وغفر الله لنا ولكم ، وعفا عنا وعنكم ، وكل عام ونحن وأياكم ، نؤمن بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا .. وعيدكم مبارك سعيد .
مدني مزراق