بين نهج الإعمار ونهج الدمار

ورقة الشيخ مدني مزراق في المؤتمر الدولي "بين نهج الاعمار ونهج الدمار" في 9 و 10 من أفريل 2016 بالأردن.
من تنظيم المنتدى العالمي للوسطية والاعتدال.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أنعم علينا بالإسلام ، و أكرمنا بالإيمان ، و هدانا سبلنا بنور القرآن ، و جعلنا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .. نبي الهداية ، ورسول السّلام .. و بعد :

أيّها الإخوة الأفاضل ، السّلام عليكم و رحمة الله تعالى وبركاته ..

بادئ ذي بدء .. أقدم جزيل الشّكر و الامتنان ، لكّل الذين ساهموا في تنظيم هذا الملتقى ، و في مقدمتهم ، الأستاذ المهندس الاخ مروان الفاعوري ، الذي تفضل وتكرم و أتاح لنا هذه الفرصة الثمينة ، لنبدي رأينا و نوضح رؤيتنا ، وندلي بدلونا في الوضع الخطير ، والمرحلة الحساسة ، التي تمر بها الحركة الإسلامية خاصة والأمة الإسلامية عامة .. كما نثمن عاليا ، رعاية المملكة الهاشمية الأردنية الشقيقة ، قيادة وشعبا ، لهذا الملتقى المبارك ، الذي جمع على أرضها كوكبة من رجال الدعوة والفكر، جاءوا من مختلف الأقطار الإسلامية ، لنصرة دين السلم والسلام ، ونشر دعوة الحق والعدل ، والمحبة والوئام ..فلكم مني جميعا ، أطيب تحية وأحلى سلام ، وأسمى آيات الشكر والعرفان ، على كرم الضيافة وحفاوة الإستقبال .

أيها الإخوة الافاضل :

كان من المفروض أن أكتب وأتكلم في الظروف والأسباب والمؤثرات ، التي تجعل الحركات المسلحة تتحول من العنف و الصدام ، إلى المصالحة و السلام ، على ضوء التجربة المريرة التي عشناها في جزائرنا ، بلاد الثورة والثوار ، والجهاد والمجاهدين ، والشهادة و الشهداء ... ولأنني سبق و أعددت ورقة في هذا الموضوع ، بغرض المشاركة في مؤتمر تونس السنة الماضية ، قدمت فيها لمحة تاريخية عن مختلف المراحل التي مرت بها بعض الدول الوطنية ، وصولا إلى أحداث الربيع العربي ، الذي أبديت فيه رأي وأصدرت عليه حكمي ..ثم وضحت نظرتي و حددت موقفي من مصطلح الإرهاب .. فقلت :

إن الإجرام وبعبع الإرهاب ، الذي يصر أعداء الله والأمة ، إلصاقهما عنوة ، بالإسلام ومن دخل فيه .. يحتّم علينا أن نسوق جملة من الحقائق ، ونطرح عددا من الأسئلة ، قبل أن نقدّم أيّ تفسير ونصدر أيّ حكم...

الحقيقة الأولى :

إنّ الطّغيان والتّسلّط ، والاستبداد ، والاعتداء ، والنّهب ، والسّلب ، وماشابهها.. أفعالٌ حرّمتها الأديان السماوية ، ونبذتها الأعراف ، وجرّمتها القوانين والقيم الإنسانيّة.

الحقيقة الثّانية :

إنّ الإسلام ، هو دين الحياة في الدنيا والآخرة ، وهو أكثر الأديان حرصا ، على تعمير الأرض ، وتنظيم سبل العيش فيها ، وصيانة النفوس والأعراض والأموال ، وحماية الإنسان من كل الأعداء الذين يتربصون به ، حتى من نفسه الآمارة بالسّوء ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي .

ففي الحياة الدنيا ، جعل قتل النفس بغير الحق ، كقتل الناس جميعا ، وإحياؤها كإحياء الناس جميعا...

ومازال الإسلام منذ أن ارتضاه الله لعباده .. يرشدهم إلى طريق الخير ، ويهديهم سبل السّلام .. ويبعدهم عن دروب الشّر، ويُحذّرهم من صُحبة الأشرار وأتباع الشّيطان .. ويأمرهم بالمعروف ويحثّهم على فعله ، وينهاهم عن المنكر ويؤكّد على تركه .. يرغّب في الجنة ، وماقرب إليها من قول أو عمل ، ويرهب من النار ، وماقرب إليها من قول أو عمل ..

ليعيش الإنسان في الدنيا حياة السعداء ، ويحيا في الآخرة حياة الخلود ، مع النّبيين والصدّيقين والصّالحين والشّهداء ، في جنّة عرضها السّماوات والأرض ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر ..

الحقيقة الثّالثة :

إنّ الأديان السماوية كلها ، والأعراف الإنسانية جميعها ، والقوانين الدولية برمتها ، أكدت على مايلي :

حقّ الإنسان في الدّفاع عن نفسه وماله وعرضه .

حقّ الشّعوب في الدّفاع عن أوطانها وهويتها وكرامتها .

حقّ الدّول في حماية بلدانها وشعوبها ومصالحها المشروعة .

إنّ القتال في الحالات الثلاثة المذكورة أعلاه ، بقيوده المشروطة ، هو حقّ شرعي ، أكّده الله خالق الإنسان ، وهو يحذّر عباده من جريمة القتل ، التي عدّها الإسلام من أكبر الكبائر...

فقال سبحانه يمدح عباد الرحمن ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا .

الحقيقة الرابعة :

إنّ الدّول العظمى ، التي ترفع شعار الديمقراطية ، والدّفاع عن حقوق الإنسان .. هي التي قامت بأوسع عملية احتلال في العصر الحديث .. فبِاسْمِ ترويض الشعوب الهمجية ، وإخراجها من ظلمات الفقر والجهل .. استعمروا أوطاننا ، وقتلوا شعوبنا ، ونهبوا خيراتنا ، وفعلوا المستحيل لطمس هويتنا.. وكلما دخلوا مدينة أفسدوها ، وجعلوا أعزة اهلها أذلّة ، وأحرارها عبيدا ، وعلماءها جهّالا ، وأغنياءها فقراء يتسولون ، وأقوياءها ضعفاء يتمسكنون ..

وهذه الدّول ، هي نفسها من تسبّبت في اندلاع ، أعظم وأشرس الحروب في تاريخ البشرية .. ويكفي أن نعلم ، أن الحربين العالميتين ، الأولى والثانية ، خلفتا عشرات الملايين من القتلى ، وأضعافهم من الجرحى والمشرّدين .

الحقيقة الخامسة :

إنّ عملية القتل ، تحتاج إلى وسائل ، ووسائلها ، هي الأسلحة المختلفة ، التي عرفتها البشرية .. وإذا كان الإنسان الأول ، البدائي الجاهل كما يقولون ، قد اكتفى باستعمال الهراوات ، والرّماح والسّهام ، وبعد ذلك السيوف ..

فإن الإنسان العالم ، المتنوّر المتحضّر ، في العصر الحديث ، قد فضّل تجويع عدد هائل من البشر، وتركهم فريسة للأمراض القاتلة ، والموت البطيء .. ليجمع الأموال الطّائلة ، ويصرفها على صناعة الأسلحة المدمّرة الفتّاكة .. فكانت هذه القنابل النّووية ، التي تدمّر كل شيء بإذن ربها ، والقنابل الكيماوية ، التي تسلب حياة المخلوقات على اختلاف أنواعها ، والغازات السامة ، التي تقتل و تخنق وتشوّه ، وعدّد ما شئت من الأسلحة ، المحرمة دينا وعرفا وقانونا .. هذه الأسلحة المدمّرة الفتاكة ، التي جعلت من وسائل الحرب التي يسمُّونها تقليدية ، مثل الطائرات ، والذبابات ، والمدافع ، ومختلف أنواع الرشّاشات ، أسلحة إنسانية رحيمة ..

نعم.. هذا ماقدّمه دعاة الديموقراطية ، والدّفاع عن حقوق الإنسان ، للمخلوقات الحية فوق هذه الأرض .

وحتى ندقق أكثر في مصطلح الإرهاب ، دعونا نطرح هذه الأسئلة ، ببراءة الأطفال ونيّة العجائز ...

السؤال الأول .. لإخواننا في التيار الإسلامي :

ماهي الأدلّة الشّرعية ؟ و المصوغات السياسية ؟ التي جعلتكم ترحبّون ، و تؤيِّدون الحركة الإسلامية في أفغانستان ، التي حملت السلاح ضدّ النّظام الشيوعي ، وسّميتم تلك الحرب ، جهادا في سبيل الله ، و لقّبتم المقاتل مجاهدا و بطلا ، و القتيل شهيدا .. بينما تنكرون على أبناء الجبهة الإسلامية ، الذين حملوا السّلاح ، دفاعا عن أنفسهم و أعراضهم ، وحماية لاختيار الشّعب السّيد .. و تنعتونهم بالمجرمين و الإرهابيين .. مع العلم ، أن إخواننا في أفغانستان ، لم ينتصروا في انتخابات أو زكّاهم الشّعب .. على عكس الجبهة في الجزائر ، فقد انتصرت في الانتخابات ثلاث مرات متتالية .. و زكّاها الشّعب ، بأغلبية مطلقة لا غُبار عليها ... صحيحٌ أن التّدخّل الأجنبي الرّوسي في ذلك الوقت ، ساعد كثيرا في إعطاء مُبرّرٍ مُقنعٍ ، لإخواننا من أبناء الحركة الإسلامية في أفغانسثان ، لإعلان النّفير العامّ ، لكنّ المقاومة الإسلامية المسلّحة ، تأسّست وبدأت عملياتها ضدّ النّظام الشيوعي الأفغاني ، قبل دخول السفيات بمدة . كما أن التّدخل الأجنبي ، تم بعد ذلك في العراق ، بمباركة كبيرة من علماء الخليج ، وتأييد أغلب التيار السلفي مع بعض دعاة الإخوان . كما أنّكم أيّدتم وباركتم لاحقا ، طلب المعارضة الليبيّة ، لتتدخّل فرنسا وحلفاؤها بالحديد والنار ، بغرض إسقاط النّظام الحاكم في ليبيا ..

لماذا اجتهدتم في إلقاء المحاضرات ، و كتابة المراجعات و التّراجعات ، لمّا ضاقت عليكم السّبل ، و نادى المنادي بعد 11سبتمبر ، يا أيّها الإسلاميّون ، أدخلوا مساكنكم لا تحطمنكم أمريكا و جنودها و هم لا يشعرون .. فحرمتم علينا الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر ، و كدتم تجبروننا ، على حذف كلمة الجهاد من المصحف الشّريف ، بعدما سحبتموها من أدبياتكم و خطاباتكم ، ثمّ .. و سبحان الله العظيم .. ماإن أذنت أمريكا و حلفاؤها ، للشّعوب المضطهدة ، بكسر القيود ، وإعلان الثّورة على الأنظمة الحاكمة .. حتىّ أسرعتم إلى التّهليل و التّطبيل ، و تأييد القتال في كل مكان .. في ليبيا .. في سوريا .. في اليمن .. وفي غيرها من البلدان ، و سميتموه جهادا ، و ثورة في سبيل الحرية و الديموقراطية ، ضدّ الأنظمة القمعية !!؟

السؤال الثاني .. لإخواننا في التيار السلفي :

كيف تٌسمّون ما قام به ، الشيخ محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله تعالى مع آل سعود ، عندما قرّروا التّمرد على السّلطان العثماني ، و أسسوا دولة مستقلّة بنظام ملكي .. هل كان ذلك خروجا على السلطان ، أم تصحيحا لابدّ منه ، في سبيل إصلاح مايمكن إصلاحه ؟

السؤال الثالث .. للرفاق في التيار اليساري :

هل مازلتم تنظرون إلى الحكام الشّيوعيين ، خاصّة ستالين ، نظرة إجلال و إكبار، لأنه قائد عظيم ، أعلن الحرب على الرّجعية و الظلاميّة ، و قتل الملايين بوحشيّة لا مثيل لها ، من أجل نشر القيم الإنسانية ، و الأفكار النيّرة التّقدّميّة ، وتحرير الشّعوب ، من سلطة الإقطاعيين ، ورجال الدّين وخرافاتهم ؟

و ماذا عن عشرات الحركات اليسارية ، في مختلف أنحاء العالم ، التي حملت السّلاح ، و خاضت ضدّ أنظمة بلدانها ، حروبا لسنوات و سنوات ، تحت شعار ، محاربة الإقطاع و الاستبداد و الإمبريالية ؟

السؤال الرابع .. لأبناء "المجتمع المستفيد" من الجمهوريين والديموقراطيين :

فسّروا لنا - هداكم الله إلى الطّريق المستقيم - كيف أصبح الشّباب الفرنسي ، الذي قرّر حمل السّلاح ، و أعلن الثّورة على حاكم فرنسا الشّرعي [ الملك آنذاك ] ، بطلا و منقذا ، و نموذجا في العالم بـأسره ، بينما يكون غيره ، ممن حمل السلاح بحق ، متمرّدا ومجرما وإرهابيا .. أليس هذا كيلا بمكيالين !؟ بلى ، إنها لقسمة ضيزى ، وتخسير للميزان .. وربّ عيسى المسيح ، ومحمّد البشير النّذير، صلوات ربي وسلامه عليهما في الأوّلين والآخرين .

الحقيقة التي ليس بعدها إلا الضّلال :

إنّ كلّ ما فعلته الصّهيونية بالإنسان ، فوق هذه الأرض ، من قتل و فساد و دمار، كان ينفّذ دائما ، باسم الدّين اليهودي ، والفكر النوراني .. وسيّدنا موسى عليه السلام ، و دين بني إسرائيل ، من الصهيونية براء .

إنّ الكوارث التي ارتكبها الصليبيون ، في حقّ الأمّة الإسلامية خاصّة ، و النّاس عامّة ، كانت تتمّ ، باسم الدّين المسيحي .. و سيّدنا عيسى عليه السلام ، و دين النّصارى ، من الصليبية براء .

إنّ الأعمال الوحشية ، التي تنفّذها تنظيمات مارقة مجنونة ، مثل تنظيم " الجيّا " المنحرف في الجزائر ، و داعش في العراق وبلاد الشّام ، و من سبقوهم عبر تاريخ الأمّة الطّويل .. كانت و مازالت تتمّ باسم الإسلام .. و سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم ، و دين المسلمين ، منهم براء .

إنّ الطّغاة والمستبدّين ، في جميع أنحاء العالم ، سجنوا وعذبوا وقتلوا وسلبوا وخرّبوا ودمّروا ، باسم حماية الدّولة ، والدّفاع عن مصلحة الشّعوب .. والشّعوب منهم ومن أفعالهم براء .

أمّا من حاربوا أو يحاربون ، دفاعا عن النّفس و المال و العرض ، أو حماية للدّين والهوية والأرض .. لا يقتلون أعزلا آمنا ، ولا شيخا كبيرا ، ولا طفلا صغيرا ، ولا امرأة ، ولا يأخذون مالا بغير حق ، ولا ينتهكون عرضا ولا يعتدون ، ولا يرتكبون تجاوزات ، إلا ما أكرهوا عليه ، أودعتهم الضرورة القاهرة لفعله ، بالقيود الشرعية .. أما هؤلاء فهم المقاتلون الشّرفاء ، حيثما كانوا وأنى وجدوا ، من عاش منهم كان من المجاهدين الأخيار، ومن قتل كان من الشّهداء الأبرار .. اللّهم اجعلنا منهم ، فقد علمت سرّنا ، وما انطوت عليه قلوبنا ، وعرفت قصدنا ، وما نويناه في كلّ أقوالنا و أفعالنا .. فإنّك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور .. ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ۗ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ


أيها الإخوة الأعزاء :

يجب أن تعلموا أنّ الأزمة القاسيّة ، و المحنة الداميّة ، الّتي مرّت بها الجزائر ، تختلف اختلافا كليا ، عن الصّراعات الدّامية ، الّتي تعصف ببعض الأوطان العربية الإسلاميّة اليوم ، لامن حيث الدّوافع و الأسباب ، أو الأطراف المتنازعة ، أو مجريات الأحداث و تسلسلها ..

لأن قضيتنا ليست عقائدية ، أو طائفية ، كلا ولم تكن أبدا ، مشكلة كفر وإيمان .. كما يدعي أهل الهجرة والتّكفير، ومن ذهب مذهبهم .. وإن كان الإيمان ، هو أصل عقيدتنا ، وسرّ حياتنا ، ونور قلوبنا وعقولنا ..

وهي ليست اجتماعية واقتصادية .. كما لم تكن أبدا ، مشكلة فقر وتهميش .. مثلما يفسّر ذلك أشباه الخبراء والمحلّلين .. وإن كان الفقر والتهميش ، أعداء لنا ، نحاربهم بالعمل والتضامن والعدل ..

وهي ليست مؤامرة خارجية .. ولم تكن أبدا ، مشكلة عمالة لجهات أجنبيّة .. كما يروّج لذلك التّيار الاستئصالي العميل .. وإن كان الأخطبوط الصّهيوني العالمي ، حاضرا بقوّة في أزمتنا ، عبر أدرعه الطويلة .. فرنسا ، وأمريكا ، ودولة اليهود .. ومن لفّ لفّهم ..

بل هي قضيّة حقّ وباطل .. وسببها سياسي صرف .. ذلك أنّ النّظام الحاكم في بلادنا ، وجّه دعوة رسمية لكلّ التّيارات السياسية في الجزائر ، للخروج من العمل السّري .. والدخول في الشّرعية ، والنّشاط علنا في إطار أحزاب ، تخضع للقانون وتتحرّك في إطار الدّستور .. فصدّقناه ولبّينا الدّعوة ، واحترمنا القوانين التي سطّرها ، والقواعد التي وضعها .. فلمّا انحاز الشّعب إلى صفّنا .. ووضع ثقته فينا .. وسلّمنا مقاليد الحكم بكل سيادة وديمقراطية .. داسوا على هذه القوانين ، وتنكّروا لتلك القواعد ، وانقلبوا علينا جهارا نهارا ، أمام أنظار كل شعوب العالم ، الذين كانوا أكبر شاهد عيان ، على خطيئة الانقلابيين المنكرة ، وفعلهم الشنيع .. فكان النظام الحاكم بهذا ، هو المسؤول عن الأزمة ، وهو المسؤول عن كل الأخطاء ، التي وقع فيها غيره لاحقا ، ومنها أخطاء رجال الجبهة الإسلامية ، الصادقين مع ربهم ، المحبين لوطنهم .. لأن كل ماأصاب الجزائر بعد ذلك ، جاء كنتيجة طبيعيّة ، للتصرف الأرعن ، الذي قام به رؤوس التيار الاستئصالي الحاقد .. أما ما وقعت فيه ، بعض الفلول الإجرامية التّابعة للنّظام ، من انتهاكات وتجاوزات خطيرة ، وكذلك مافعلته بعض الجماعات المسلحة ، التي لادين لها ولاخلاق ، من مجازر وماشابهها .. أما هذا ، فنحن منه براء ، براءة الذئب ، من دم يوسف بن يعقوب عليهما السّلام ..

وإذن ، فمهما نعق النّاعقون بالأباطيل .. ونبح النبّاحون بالأراجيف .. وزوّر المزوّرون بالافتراءات .. فإنّ الحقيقة تبقى ساطعة ، كالشّمس في كبد السّماء ، لا يستطيع طمسها ، طاغية جبّار أومجرم قتّال .. أويعكّر صفوها ، خائن غدّار أومتقوّل دجّال .. جفت الاقلام وطويت الصحف .

﴿ مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا

أما اليوم .. فقد ارتأيت أن أبتعد عن الإجتهاد في الكتابة الأدبية الجميلة ، والتكلف في الصياغة البليغة المؤثرة .. وأختار أسلوبا مغايرا في إبداء الرأي ، وتقديم الأفكار ، والدفاع عن القناعات .. ولم أجد طريقة جادة وعملية أفضل من الحضور والجلوس بين أيديكم ، متطوعا وطالبا للمحاكمة العادلة .. ورغم أني أعرف أنكم لا تستطيعون محاكمتي محاكمة قانونية ، لافتقاركم إلى الصفة التي يحددها القانون ، وتمنحها الجهات الرسمية .. إلا أني متقين من قدرتكم وكفاءتكم ، على تنظيم محاكمة دعوية شرعية ، وسياسية فكرية ..نحاول من خلالها أن نتعرف على الحقيقة كما هي .. وليست كما يصورها الماكرون ، ويروّج لها الحاقدون ، تشكيكا في صحة الإسلام وصلاحه ، وتشويها لسمعة المسلمين وشيطنتهم .

ونناقش بصدق وشجاعة ، المنعطفات التاريخية التي لجأ فيها المسلمون إلى السلاح ، لتقويم اعوجاج السلطان أو الإطاحة به ، ونتبين الأمر من أولي الأحلام والنهى ، وأهل العلم و الدراية في تلك الأوقات ، كيف كان موقفهم من الأحداث ؟ وماهي الأحكام التي أصدروها؟ ..

ثم نقرأ قراءة جريئة ومتأنية ، في أسباب ظهور الفرق الإسلامية ، والأصول التي بنت على أساسها المداهب المختلفة ، ونجتهد في تحديد الفرق بين من حمل السلاح بدافع سياسي ، وبين من حمله من منطلق عقدي ، وأنا متأكد بعد ذلك من أن الحقيقة ستنجلى أمام أعيننا عارية من كل لبوس ..

ثم ننتقل إلى عالمنا المعاصر، ونجري عملية تقييم موضوعي ، لمسار الحركة الإسلامية ، ونتكلم عن الأوقات العصيبة التي ظهرت فيها إلى الوجود ، والأوضاع المزرية التي كانت تعيشها الشعوب ، من ذل وفقر وجهل واستعباد ، تحت وطأة الاستعمار الغربي الصليبي الغاصب .. ونبين الدور الكبير الذّي قامت به الحركة الإسلامية ، في التعليم والتربية والحفاظ على الهوية والانتماء ، مما أدى إلى انتشار الوعي والشعور بالمسؤولية لدى مختلف الشعوب الإسلامية ، فتاقت إلى الحريّة والاستقلال وكانت على إثر ذلك الثورات بشتى أنواعها و أشكالها..

كما يجب أن نشير إلى إخفاق الحركة الإسلامية ، في التعامل مع الأوضاع الجديدة بعد خروج المستعمر ، وإحجامها عن المشاركة في الحكم ، مما سهل الأمر على التيار اليساري للانفراد بالسلطة واتخاذ القرارات ، التي رجعت بالوبال على التيار الإسلامي الذي دفع الثمن غاليا خلال تلك المرحلة العصيبة.

وإذا كان الموت يأتي بعد الحياة ، فبعد السقوط يكون النهوض .. هذا ماوقع للحركة الإسلامية على إثر الضربات القاسية التي تلقتها من أنظمة الدول الوطنية .. فبعد السجون والتشريد والتعذيب ، عادت دماء الصحوة تجري في جسد الحركة الإسلامية من جديد .. وكانت سنوات لا تنسى .. أدّى فيها أبناء الحركة الإسلامية عملا جبّارا ، استطاعوا من خلاله أن يعيدوا الأمّة إلى طريقها الصحيح ، وأصولها المتينة وأخلاقها الحميدة .. وكاد الناس يجزمون بأن عودة الحكم الإسلامي الذّي يملأ الدّنيا عدلا وأمنا ، قد أصبح قاب قوسين أو أدنى ..

لكن تجري الرياح بما لاتشتهي السفن ..فقد وقع تحوّل مفاجئ في قناعات قادة الحركة الإسلامية ، تسبب في الإنتقال السّريع من الحركات الدعوية التربويّة ، بنظرتها الشاملة للإصلاح ، إلى حركات سياسيّة حزبيّة ضيّقة ..

فبعد الظهور القوي للجبهة الإسلامية في الساحة السياسية ، تخلى أغلب رجال الحركات الأصيلة ، عن قناعتهم التي كانت تقول بأولوية العمل التربوي على العمل الحزبي ، وأن الدعوة أصل والسياسة فرع ..

ومع الأسف .. ففي خضم ذلك التنافس و التهافت الهستيري الجارف ، ظهرت خلافات كثيرة ، ماكان لها أن تظهر .. في المبادئ اختلفنا .. في التصورات .. في المفاهيم .. في الأهداف .. في الوسائل .. وحتى في الأخلاق و السلوكات .. لقد وظفنا رصيد الحركة الإسلامية كاملا في العمل السياسي الحزبي ، وأفرغنا الساحة الدعوية من رجالها ، وتركناها صحراء قاحلة .. لا تنبت كلأ ولا زرعا .. لقد كشفنا ظهرنا لخصومنا وأعدائنا .. فكانت الضربة القاسية المؤلمة ..ومرة أخرى مع كل أسف ، بعد التهافت الهستيري السياسي ، جاء التخبط في المواقف من الجهاد و الحرية و الديموقراطية وحقوق الإنسان .. ولمن أراد أن يفهم هذا جيدا ، ماعليه إلا يمعن النظر ، في المواقف المتدبدبة في بعض الأحيان ، المتناقضة في أغلب الأحيان ، من القضايا التالية ..

  • قضية الثورة الإيرانية ثم الانقلاب عليها .
  • قضية الجهاد الأفغاني و العرب الأفغان .
  • قضية الأزمة الجزائرية والصدام المسلح .
  • قضية ليبيا ، ومراجعات الصلابي و نذير بلحاج .
  • قضية سوريا وشيوخ السلفية .الشيخ عدنان عرعور مثلا
  • قضية اليمن والصراع بين السنة والشيعة .
  • قضية حزب الله.
  • قضية تونس والبوعزيزي رحمه الله .
  • قضية مصر والاحتكام إلى الشارع.

أخيرا :

بقي لنا أن نذكر من ينتفع بالذكرى ، بأن المؤامرة على رجال الله ودعاة الخير ، ليست مجرد نظرية يتحجج بها الضعفاء والمنهزمون ، بل هي حقيقية دينية ، وهي قائمة ومستمرة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ..وإذا كان الامر كذلك ، وهو فعلا كذلك ، فلا يجب أن تكون سببا في تقاعسنا وفشلنا ، بل يجب أن تحرك هممنا ، وتحثنا على الإجتهاد أكثر، في أخذ الحيطة والحذر ورص الصفوف ، بالتنظيم المحكم ، و التحرك وفق تخطيط دقيق وعمل متقن ، وأن نحسب لكل شيئ حسابه ، ونختار لكل أمر رجاله .

إن النقذ الذاتي لمسار أي شخص أوحركة ، هو ضرورة لمن أراد الإستمرار في طريق النضال الهادف ، والعمل الجاد المفيد ، وهو ليس جلدا للذات ندما وحسرة ، كما يمكن أن يفهمه بعضنا خطأ ، لأن وعد الله في القرآن ، بتمكين دعاة الحق ورجال الإصلاح في الارض ، باق ما بقي مؤمن يدب فوق هذه البسيطة . لذلك فإن الحركة الإسلامية ، كانت ومازالت وستبقى ، هي القوة الاولى ، المرشحة لإحداث النقلة النوعية المنتظرة ، لصالح الدولة العربية والإسلامية .. فقط ، على قادتها ورجالها أن يعودوا إلى المنبع الصافي ليرتووا منه ، وإلى الأسس الصحيحة ليرتكزوا عليها ، ويجددوا برامجهم في التربية والتكوين والتنظيم ، ويختاروا وسيلة النضال المناسبة في كل مرحلة ، وأن لا يتعجلوا قطف الثمرة قبل أوان نضجها ، أوشفاء المريض قبل أن يفعل الدواء فعله ، فإن الوقت جزء من العلاج ، كما أن المنبث لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ، وليصبروا فإن النصر مع الصبر ، والصبر مفتاح الفرج ، وقد علمتم أن الله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب .

.. نسأل الله أن يبرم لهذه الأمة أمرا رشدا ، يعز فيه وليه ويذل فيه عدوه ، ويحكم فيه بكتابه .. آمين .

أخوكم : مدني مزراق