رسالة رمضان 2015

رسالة رمضان 2015


بسم الله الرحمن الرحيم

بسم لله والحمد لله ولاحول ولاقوة إلّا بالله ..

بالنّور ، والعلم ، و القلم .. تميّزت رسالة الإسلام الخالدة .

و بالقول الفصل ، و الحجّة الدّامغة ، و الحكمة البالغة .. جاءت نصوص الكتاب الحكيم ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ .

و بالكلام البليغ المعجز ، والبيان السّاحر .. نزل القرآن الكريم ، بلسان عربي مبين ﴿ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ .

و بفضل الله القويّ المتين .. ثمّ دعوة الرّسول الأمين .. و جهاد الصّحابة الأوّلين .. و من سار على هديهم من التّابعين .. انتشر نور الإسلام فوق هذه الأرض ، التي جمعت على ظهرها بني الإنسان ..

.. فكان نصيبنا من النّور وافرا ، ومن الأرض كبيرا .. نحن أبناء الجيش الإسلامي للإنقاذ ، و كل أبناء الجزائر الذين رضوا بالله ربّا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمّد صلى الله عليه وسلم نبيّا ورسولا.

فقد ولدنا في هذه الأرض .. أرض الأمازيغ الأحرار ..

ونشأنا في هذه البلاد .. بلاد الفاتحين المسلمين الأطهار ..

وترعرعنا في هذا الوطن .. وطن الشّعب المسلم الثّائرالمغوار ..

وكبرنا في هذه الجزائر .. جزائر المجاهدين الأخيار، والشّهداء الأبرار ...

.. الجزائرالتي كانت ولاتزال .. قلب المغرب الكبير النّابض .. ولسان العالم العربي الصّامد .. ودرع الأمّة الإسلامية المتين .
جزائر الإسلام والعروبة .. جزائر الثّورة والجهاد .. جزائر التّضحية والاستشهاد ...

الجزائر التي شاءت لها الأقدار ، أن تُبتلى باستعمار حقود غاشم ، احتلّ أرضها ، وانتهك حرمتها، ونهب خيراتها ، وتركها مكبّلة ، تئنّ تحت السّيطرة الفرنسية ، لأكثرمن قرن ، مئة وثلاثون سنة كاملة ، تعرضت فيها للظّلم والطّغيان ، وذاقت خلالها مرارة الذّلّ والهوان .. بل إنّ فرنسا الصّليبية ، ذهبت أبعد من ذلك ، فقد حاولت جاهدة ، مسخ هويّة الجزائريين ، وطمس لغتهم ، وتغيير دينهم ، وسلبهم أعزّ ما لديهم ، الإيمان و الشّرف والكرامة والحرّية ، حتى تجعل الشّعب كله مملوكا لها ، تابعا وخادما عندها إلى الأبد .. طمعا في استعباده و استحماره ، ما بقيّت الأرض و استمرّ الزّمان .

ولكن ، هيهات هيهات .. فقد كان لله عز وجل قرارٌ آخر ، غير الذي أرادته فرنسا .. فقد نظر سبحانه إلى قلوب الجزائريين العامرة بالإيمان فثبّتها ، وإلى العقول الحيّة بالقرآن فنوّرها ، وإلى النّفوس الأبيّة بالإسلام فقوّاها و أيّدها..

فإذا بهذا الشّعب الّذي ظنّت فرنسا أنّه مات .. ينهض من سبات ، و يحيا من ممات ، و ينتفض في وجهها كالأسد الجريح ، و يعلن الثّورة بالجهاد الصّحيح ، و يوحّد شعبه بشعار الله أكبر.. ويحدّد قصده ، ببناء دولة جزائرية مستقلّة ذات سيّادة ديموقراطيّة و اجتماعيّة ضمن إطار المبادئ الإسلامية.

فلم يكن من فرنسا إلا أن أزاحت اللّثام عن وجهها ، وكشفت عن حقيقتها ، و ضربت بشعاراتها الزّائفة عرض الحائط ، فلا حريّة و لا مساواة ولا عدالة ، بل صبّت جامّ غضبها و حقدها الدّفين، على كل ماله علاقة بالجزائر و شعبها ، فحرقت و خرّبت و دمّرت و ذبحت و قتلت و عذّبت و شرّدت ، مستعملة كلّ الأسلحة التي استطاعت الحصول عليها ، ممنوعة كانت أو محرّمة .. ولم يسلم من بطشها وجورها ، مسجد أو مدرسة ، ولامعلم أو معمل أو مزرعة ، كما لم تفرّق في حربها الشّرسة ، بين المسلمين المحاربين و العزّل الآمنين ، فشملت بطغيانها و وحشيّتها ، الرّجال و النّساء ، الشّيوخ والأطفال ، وحتّى الحيوانات ، لم تنج من سخطها وجنونها ...

و رغم هذا ، فقد كانت تسوق لنفسها في المحافل الدّولية ، على أنها السّلطة الشّرعية في الجزائر، و ما تفعله هو تطبيق للقانون ، و حماية للشّعب و مؤسّسات الدّولة ، من الإرهابيّين المجرمين ، و قطّاع الطّرق ، الفلّاقة المارقين ، الّذين لم يكونوا في الحقيقة ، إلّا آباءنا المجاهدين أصحاب الحقّ ، الذين يدافعون عن الأرض و العرض ..

وبإرادة الله العلي القدير، كان لهذا الشعب ما أراد .. فخرجت فرنسا صاغرة ذليلة .. و رحل جيشها مذموما مدحورا .. و رفرفت راية النّجمة و الهلال ، بالأخضر و الأحمر و الأبيض .. ونكس علم الصّليب و الاحتلال .. و فرح المسلمون بنصر الله الكبير .. و أنشد الأحرار في مشارق الأرض و مغاربها ، أنشودة الحقّ و النّصر ، والحرّية و الانعتاق ..

فكانت هذه الجزائر ، الأمازيغية بالعرق و الأصول ، العربية بالثقافة و اللّسان ، الإسلامية بالرّوح و الدّين .. دولة شعبية ، جمهورية ديموقراطية .. دينها الإسلام ، واللغة الرسمية فيها ، هي العربية لغة القرآن ، والنّظام الاشتراكي الاجتماعي ، هو الوسيلة الأنجع ، لتحقيق التّطوّر والعدالة الاجتماعية .. وكان هذا التوجّه طبيعيا ، بحكم قناعات وثقافة الحركات التّحررية يومها ، التي كانت في أغلبها ، تسبح في بحر النّظام الاشتراكي .. وقد كانت هناك إمكانية كبيرة لنجاح هذا الخيار ، لولا تعصّب مجموعتين نافذتين داخل نظام الحكم ، لكل ما يأتيهم ممن يرونهم مثلا أعلى يٌقتدى به .. فكانت فرنسا عدوة الأمس واليوم ، والاتحاد السوفياتي ، رأس الشّيوعية والإلحاد في ذلك الوقت ، هما النّاصح والموجّه ، وفي بعض الأحيان الآمر النّاهي ، بطريقة أو بأخرى ، الأمر الذي عطّل المسيرة حينا ، وغيّر مسارها حينا آخر، ودفع بالبلاد والعباد ، نحو المصير المحتوم ، الذي عشناه ونعيشه إلى يوم النّاس هذا ...

و إذا كانت الأيّام ، قد أكّدت صدق و إخلاص بعض الحكّام و الزّعماء ، في إخراج بلدانهم من دائرة الجهل والتّخلف ، فإنّ خبث و خيانة ، تيّارات متعصّبة ، داخل دواليب الحكم ، في البلدان العربية و الإسلامية ، قد برهنت لكل مسلم عاقل ، و لكل ّو طني غيور ، أنّ المبشّرين بجنّة النّظام الاشتراكي ، مثلهم مثل دعاة النّظام الرّأس مالي اللبيرالي ، لم ينجحوا الا في تحطيم قيم الأمّة ، و مسخ هويتها ، ونشر الجهل والفقر ، والانحلال الخلقي بين أفرادها ، و كانت النّتيجة ، أن عمّت الفوضى أغلبية بلداننا ، وغرقت شعوبنا في التّخلف ، والصّراعات القاتلة المدمّرة .. نسأل الله أن يحفظ بلادنا من كل سوء ، ويحمي أمتنا من كل شر، إنه على مايشاء قدير وبالإجابة جدير ..

أيها الشعب المجاهد :

إنّ الكلام عن حالة الاقتتال والدّمار والخراب ، الذي غرقت فيه أوتكاد ، جميع الدّول العربيّة والإسلاميّة ، يفرض على كلّ باحث عن الحقيقة ، أن يعود بذاكرته قليلا إلى الوراء ، ويحاول قراءة مسلسل الأحداث ، قراءة متأنية متبصّرة ، ويدقّق جيدا في فهم أسبابها ودوافعها ، ثم يحكم بعد ذلك بما يراه مناسبا .. فقبل ثلاثين سنة من الآن ، كان العالم العربي منقسما إلى كتلتين ، كتلة اختارت العالم الليبرالي وارتمت في أحضان أمريكا ، والأخرى فضّلت العالم الاشتراكي وانساقت وراء الإتّحاد السّوفياتي ، وبحكم أنّ أمريكا هي رأس الحربة في الحركة الصّهيونية ، وحاملة لواء الإمبريالية العالمية ، كان من الطـّبيعي أن تتّهم البلدان العربية التي سارت في ركابها ، بالعاملة و التّآمر على قضايا الأمّة .

ولأنّ الاتّحاد السّوفياتي [ الرّوس ] يومها ، كان يظهر في صورة المحامي ، بالنّسبة للبلدان التي عانت من الاستعمار الغربي ، والشّعوب التي تتمّسك بالسّيادة و الاستقلال و الحرّية ، فلا غرابة إذا ركبت الدّول الوطنية ، موجة الإشتراكية واصطفت إلى جانب ، ند أمريكا وعدوّها اللّدود ، طمعا في التّقدّم والازدهار ، ونصرة قضايا الأمّة ، وعلى رأسها قضية فلسطين .

ومرّت الأيّام والشّهور والأعوام وتتباعت ..

وأصبحت مصر "جمال عبد الناصر" صاحبة شعار " سنلقي بإسرائيل في البحر " ، هي نفسها مصر التي تكسر كل الطابوهات ، وتزيل جميع الحواجز في أيّام " السّادات " ، وتذهب مباشرة إلى كامب دافيد ، لتطبيع العلاقات نهائيا مع الكيان الصّهيوني .. أما مصر في عهد " السيسي " ، فقد عادت إلى جاهلية الفراعين ، الذين أخرجوا المصريين من ديارهم ، وذبحوا أبناءهم ورجالهم واستحيوا نساءهم ، وأذاقوهم أشد العذاب ... [ أسأل الله أن يحرك همم الخيرين في شتى مواقعهم ، ويعينهم على الدفع بجميع الأطراف المتنازعة ، للإنطلاق فورا في مصالحة جادة ، تحقن دماء المصريين جميعا ، وتحفظ لمصر دولتها ، شعبا وأرضا وسلطة ]..

كما أضحت المملكة العربية السعودية ، خزان أمريكا البترولي ، والراعي الأول لسياستها في دول الخليج ، بعدما كانت منيعة عصية ، أيام الملك فيصل رحمه الله تعالى .. وباتت ليبيا " معمر القذافي " تستجدي أمريكا والمملكة البريطانية وفرنسا ، وتقدم القربان تلو القربان ، بدءا بالتخلي عن المشروع النووي ، إلى تدمير الأسلحة الكيماوية وغلق مصانعها ، انتهاء بتقديم الرشاوى ، ونبذ مصطلحات الجهاد والثورة والإمبريالية ، ونسيانها .. وتحوّل القائد معمّر القذّافي ، من داعم كبير لحركات التمرد في العالم ، إلى ملك ملوك إفريقيا ، الذي يدعوا إلى الإنفتاح على العالم الغربي الإمبريالي ، فسبحان مغيرالأحوال ومقلب القلوب ..

وهكذا سارت الأمور .. وبين الحِلم والجهل ، والعقل والحُمق .. والشّجاعة والتّهور .. والشّراكة والعمالة .. وفي بحر هذه المصطلحات ، ضاعت شعوب الأمّة العربية ، وتاه ربابنة أسطولها ، وابتعدوا بها عن شاطئ البرّ والأمان والإيمان .

... وتطورت الأوضاع وتعقدت ، وقتل الرئيس العراقي " صدام حسين " ، وبموته رحمه الله .. قرأ الجميع الرّسالة ، وفهموها على الوجه الصّحيح ودون مترجم .. ونادى المناد ..

.. ياأيّها الحكّام .. يا أصحاب الجلالة والفخامة والسّمُّو : اسمعوا وعوا .. إن حُكمكُم يهتزّ .. وعروشكم ترتجّ .. والخطر بكم محدق .. والأسوأ لا محالة واقع ، ما له من دافع .. فأين المفرّ .. أمريكا أمامكم .. والشّعوب الغاضبة وراءكم ..

.. أيّها الحكّام .. من دخل بيت الطّاعة فهو آمن .. سلطانه قائم .. وحكمه دائم .. والخلود فيه حقّ مشروع .. وتوريثه عرف متبوع .. والدّيموقراطية التي ندعوكم إليها ، مجرّد اسم عصري ولقب فخري ، للاستبداد الذي تمارسونه في بلدانكم ..

.. وهكذا تابت الأنظمة الثـّورية .. وركعت الدّول الوطنية .. وأذعن الجميع للنّظام العالمي الجديد .. وتمّت مراجعة وإعادة النّظر في جميع المنظومات .. السياسية والعسكرية والتّربوية والاقتصادية والاجتماعية ..

.. وتحوّلت أمريكا من شيطان لعين ، وحيوان مفترس ، إلى ملاك يبشّر بالدّيموقراطية وحرّية التّعبير ، وحيوان أليف يُؤمَن جانِبُه، وأصبح االحكام جميعا ، يسبحون بحمد أمريكا ويعددون محاسنها .. ولم أجد تعبيرا يصف هذه الصُّورة الهزلية ، أفضل وأحسن من أبيات للشّاعر محمود غنيم :


الكبش قــام خطيبـــــا فوق رابيةينعى على الذّئب فتك الذّئب بالغنم
فتمتم الذّئب في أذنيه : أنت علىرأس القطيـع رئيس نافــذ الكلــم
فقبّـل الكبش نـــاب الذّئب معتذراعمـّـــــا رماه به من سالف التّهـم
وقال للشّاء : خوضوا وارتعوا معهمن لاذ بالذّئب منكم لاذ بالحرم
فإن تصب أحدا منكم مخالبهفإنّها بلسم يشفي من السّقم


ولأن الأعداء الحاقدين لايرحمون ، والخصوم المتربصين لايفوتون فرصتهم ، فقد تجاهلت أمريكا وحلفاؤها ، انبطاح " حسني مبارك وبشّار الأسد و عبد الله الصالح ومعمّر القذافي " ، وأدارت ظهرها للإصلاحات التي باشروها في بلدانهم ، وتبين للجميع ، أن كل التنازلات التي قدموها ، لم تكن كافية لإسكات أميركا ، وإطفاء نار غضبها .. فأوكلتهم إلى أنفسهم ، وسلّمتهم إلى شعوبهم ، ليفعلوا فيهم مالم يفعله العدوّ بعدوّه .. وكانت النّتيجة ، أن خرّبوا أوطانهم بأيديهم وأيدي أعدائهم .. "فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ"

إنّه الابتعاد عن كتاب الله .

"وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا "

إنّه الإصرار على تغيير دين المسلمين ومسخ هويتهم ، من قبل القوى الصهيونية الصليبية في العالم .

" وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ "

إنّه الاختيار الخاطئ ، للنّخب الحاكمة عندنا ، والجحود لنعمة الله وفضله.

[لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ ، فَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ ، وَبَاعًا بِبَاعٍ ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ ]

.. أمّا الجزائر فقد نجت ، وحماها الله من هذه الرّياح العاتية ، التي دمّرت كل شيء بإذن ربها ، وأتت على الأخضر واليابس في البلدان التي مرت بها ... فخربت العمران ، ونشرت الطّغيان ، ومزّقت رداء الأمان ، وألبستهم لباس الخوف والجوع بما صنعوا وكانوا يعتدون ...

نعم .. نجت الجزائر ، لأنّ شعبها قرأ الدّرس جيدا ووعاه ، وأخذ العبرة ممّا وقع ويقع .. وحصّن نفسه ، دينيا ، وسياسيا، وجمعويا .. ولم يبق له إلا الذّهاب بكلّ صدق وجدية ، إلى تحقيق الدستور التوافقي الجامع .. وكتابة ميثاق الشرف الوطني القاطع .. وتجسيد مشروع المجتمع النوفمبري المانع ... ويجب أن يفعل هذا في أقرب الآجآل ، وقبل فوات الأوان .. لأن مايحدث عند غيرنا ليس ببعيد عنا .. نسأل الله الحفظ والستر والعافية .

لهذا ندعوا السيد الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة ، الذي كان شجاعا وقال الحقيقة لشعبه ، واعترف بأنه مريض لايقوى على الكلام ، وعاجز لايستطيع القيام ، شفاه الله وأمده بالصحة والعافية ، أن يختار رجل دولة متمرسا ، وطنيا مخلصا ، يملك التجربة الكافية والكفاءة العالية ، ويعينه ممثلا شخصيا للرئيس وناطقا باسم الرئاسة ، ليكون عينه التي يحرس بها ، ولسانه الذي ينطق به ، ويده التي يكتب بها ، ورجله التي يمشي بها ..

إن رجل دولة بهذه الأوصاف ، يستطيع فعلا أن يحاور أصحاب الرأي والسياسة ، الذين يمثلون مختلف فئات الشعب حقا ، والذين يصهرون على خدمة الدولة وحمايتها صدقا ، في السلطة كانوا يؤيدونها ، أو في المعارضة يخالفونها ويجتهدون في تقويم مسارها .. إن هذا الرجل يستطيع إتمام ما بدأته أنت السيد الرئيس ، ويذهب بالمصالحة إلى نهايتها ، ويكمل مشروع الإنقاذ الوطني الكبير، بتنظيم الإستحقاقات القادمة ، في إطار الدستور التوافقي المنتظر ، والتي لايمكن أن تكون إلا حرة نزيهة وشفافة ، وبعدها يحق لك أن تقول وبالفم المليان ، أني حاولت جهدي وقدمت ما استطعت ، لإنقاذ البلاد وحمايتها ، وقد تحقق الأهم والفضل لله من قبل ومن بعد ، فمن شكر فله الشكر ، ومن سخط فعليه ، وأجرنا على الله .. " إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ "..

أيها الشعب الصبور :

إن الإجرام وبعبع الإرهاب ، الذي يصر أعداء الله والأمة ، إلصاقهما عنوة ، بالإسلام ومن دخل فيه .. يحتّم علينا أن نسوق جملة من الحقائق ، ونطرح عددا من الأسئلة ، قبل أن نقدّم أيّ تفسير ونصدر أيّ حكم...

الحقيقة الأولى :

إنّ الطّغيان والتّسلّط ، والاستبداد ، والاعتداء ، والنّهب ، والسّلب ، وماشابهها.. أفعالٌ حرّمتها الأديان السماوية ، ونبذتها الأعراف ، وجرّمتها القوانين والقيم الإنسانيّة .

الحقيقة الثّانية :

إنّ الإسلام ، هو دين الحياة في الدنيا والآخرة ، وهو أكثر الأديان حرصا ، على تعمير الأرض ، وتنظيم سبل العيش فيها ، وصيانة النفوس والأعراض والأموال ، وحماية الإنسان من كل الأعداء الذين يتربصون به ، حتى من نفسه الآمارة بالسّوء ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي .

ففي الحياة الدنيا ، جعل قتل النفس بغير الحق ، كقتل الناس جميعا ، وإحياؤها كإحياء الناس جميعا ...

ومازال الإسلام منذ أن ارتضاه الله لعباده .. يرشدهم إلى طريق الخير ، ويهديهم سبل السّلام .. ويبعدهم عن دروب الشّر، ويُحذّرهم من صُحبة الأشرار وأتباع الشّيطان .. ويأمرهم بالمعروف ويحثّهم على فعله ، وينهاهم عن المنكر ويؤكّد على تركه .. يرغّب في الجنة ، وماقرب إليها من قول أو عمل ، ويرهب من النار ، وماقرب إليها من قول أو عمل ..

ليعيش الإنسان في الدنيا حياة السعداء ، ويحيا في الآخرة حياة الخلود ، مع النّبيين والصدّيقين والصّالحين والشّهداء ، في جنّة عرضها السّماوات والأرض ، في مقعد صدق عند مليك مقتدر ..

الحقيقة الثّالثة :

إنّ الأديان السماوية كلها ، والأعراف الإنسانية جميعها ، والقوانين الدولية برمتها ، أكدت على مايلي :

حقّ الإنسان في الدّفاع عن نفسه وماله وعرضه .

حقّ الشّعوب في الدّفاع عن أوطانها وهويتها وكرامتها .

حقّ الدّول في حماية بلدانها وشعوبها ومصالحها المشروعة .

إنّ القتال في الحالات الثلاثة المذكورة أعلاه ، بقيوده المشروطة ، هو حقّ شرعي ، أكّده الله خالق الإنسان ، وهو يحذّر عباده من جريمة القتل ، التي عدّها الإسلام من أكبر الكبائر ...

فقال سبحانه يمدح عباد الرحمن ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا .

الحقيقة الرابعة :

إنّ الدّول العظمى ، التي ترفع شعار الديمقراطية ، والدّفاع عن حقوق الإنسان .. هي التي قامت بأوسع عملية احتلال في العصر الحديث .. فبِاسْمِ ترويض الشعوب الهمجية ، وإخراجها من ظلمات الفقر والجهل .. استعمروا أوطاننا ، وقتلوا شعوبنا ، ونهبوا خيراتنا ، وفعلوا المستحيل لطمس هويتنا .. وكلما دخلوا مدينة أفسدوها ، وجعلوا أعزة اهلها أذلّة ، وأحرارها عبيدا ، وعلماءها جهّالا ، وأغنياءها فقراء يتسولون ، وأقوياءها ضعفاء يتمسكنون ..

وهذه الدّول ، هي نفسها من تسبّبت في اندلاع ، أعظم وأشرس الحروب في تاريخ البشرية .. ويكفي أن نعلم ، أن الحربين العالميتين ، الأولى والثانية ، خلفتا عشرات الملايين من القتلى ، وأضعافهم من الجرحى والمشرّدين .

الحقيقة الخامسة :

إنّ عملية القتل ، تحتاج إلى وسائل ، ووسائلها ، هي الأسلحة المختلفة ، التي عرفتها البشرية .. وإذا كان الإنسان الأول ، البدائي الجاهل كما يقولون ، قد اكتفى باستعمال الهراوات ، والرّماح والسّهام ، وبعد ذلك السيوف ..

فإن الإنسان العالم ، المتنوّر المتحضّر ، في العصر الحديث ، قد فضّل تجويع عدد هائل من البشر، وتركهم فريسة للأمراض القاتلة ، والموت البطيء .. ليجمع الأموال الطّائلة ، ويصرفها على صناعة الأسلحة المدمّرة الفتّاكة .. فكانت هذه القنابل النّووية ، التي تدمّر كل شيء بإذن ربها ، والقنابل الكيماوية ، التي تسلب حياة المخلوقات على اختلاف أنواعها ، والغازات السامة ، التي تقتل و تخنق وتشوّه ، وعدّد ما شئت من الأسلحة ، المحرمة دينا وعرفا وقانونا .. هذه الأسلحة المدمّرة الفتاكة ، التي جعلت من وسائل الحرب التي يسمُّونها تقليدية ، مثل الطائرات ، والذبابات ، والمدافع ، ومختلف أنواع الرشّاشات ، أسلحة إنسانية رحيمة ..

نعم.. هذا ماقدّمه دعاة الديموقراطية ، والدّفاع عن حقوق الإنسان ، للمخلوقات الحية فوق هذه الأرض .

وحتى نددق أكثر في مصطلح الإرهاب ، دعونا نطرح هذه الأسئلة ، ببراءة الأطفال ونيّة العجائز ...


السؤال الأول .. لإخواننا في التيار الإسلامي :

ماهي الأدلّة الشّرعية ؟ و المصوغات السياسية ؟ التي جعلتكم ترحبّون ، و تؤيِّدون الحركة الإسلامية في أفغانستان ، التي حملت السلاح ضدّ النّظام الشيوعي ، وسّميتم تلك الحرب ، جهادا في سبيل الله ، و لقّبتم المقاتل مجاهدا و بطلا ، و القتيل شهيدا .. بينما تنكرون على أبناء الجبهة الإسلامية ، الذين حملوا السّلاح ، دفاعا عن أنفسهم و أعراضهم ، وحماية لاختيار الشّعب السّيد .. و تنعتونهم بالمجرمين و الإرهابيين .. مع العلم ، أن إخواننا في أفغانستان ، لم ينتصروا في انتخابات أو زكّاهم الشّعب .. على عكس الجبهة في الجزائر ، فقد انتصرت في الانتخابات ثلاث مرات متتالية .. و زكّاها الشّعب ، بأغلبية مطلقة لا غُبار عليها ... صحيحٌ أن التّدخّل الأجنبي الرّوسي في ذلك الوقت ، ساعد كثيرا في إعطاء مُبرّرٍمُقنعٍ ، لإخواننا من أبناء الحركة الإسلامية في أفغانسثان ، لإعلان النّفير العامّ ، لكنّ المقاومة الإسلامية المسلّحة ، تأسّست وبدأت عملياتها ضدّ النّظام الشيوعي الأفغاني ، قبل دخول السفيات بمدة .. كما أن التّدخل الأجنبي ، تم بعد ذلك في العراق ، بمباركة كبيرة من علماء الخليج ، وتأييد أغلب التيار السلفي مع بعض دعاة الإخوان .. كما أنّكم أيّدتم وباركتم لاحقا ، طلب المعارضة الليبيّة ، لتتدخّل فرنسا وحلفاؤها بالحديد والنار ، بغرض إسقاط النّظام الحاكم في ليبيا ..

لماذا اجتهدتم في إلقاء المحاضرات ، و كتابة المراجعات و التّراجعات ، لمّا ضاقت عليكم السّبل ، و نادى المنادي بعد 11سبتمبر ، يا أيّها الإسلاميّون ، أدخلوا مساكنكم لا تحطمنكم أمريكا و جنودها و هم لا يشعرون .. فحرمتم علينا الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر ، و كدتم تجبروننا ، على حذف كلمة الجهاد من المصحف الشّريف ، بعدما سحبتموها من أدبياتكم و خطاباتكم ، ثمّ .. و سبحان الله العظيم .. ماإن أذنت أمريكا و حلفاؤها ، للشّعوب المضطهدة ، بكسر القيود ، وإعلان الثّورة على الأنظمة الحاكمة .. حتىّ أسرعتم إلى التّهليل و التّطبيل ، و تأييد القتال في كل مكان .. في ليبيا .. في سوريا .. في اليمن .. وفي غيرها من البلدان ، و سميتموه جهادا ، و ثورة في سبيل الحرية و الديموقراطية ، ضدّ الأنظمة القمعية !!؟


السؤال الثاني .. لإخواننا في التيار السلفي :

كيف تٌسمّون ما قام به ، الشيخ محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله تعالى مع آل سعود ، عندما قرّروا التّمرد على السّلطان العثماني ، و أسسوا دولة مستقلّة بنظام ملكي .. هل كان ذلك خروجا على السلطان ، أم تصحيح لابدّ منه ، في سبيل إصلاح مايمكن إصلاحه ؟

السؤال الثالث .. للرفاق في التيار اليساري :

هل مازلتم تنظرون إلى الحكام الشّيوعيين ، خاصّة ستالين ، نظرة إجلال و إكبار، لأنه قائد عظيم ، أعلن الحرب على الرّجعية و الظلاميّة ، و قتل الملايين بوحشيّة لا مثيل لها ، من أجل نشر القيم الإنسانية ، و الأفكار النيّرة التّقدّميّة ، وتحرير الشّعوب ، من سلطة الإقطاعيين ، ورجال الدّين وخرافاتهم ؟

و ماذا عن عشرات الحركات اليسارية ، في مختلف أنحاء العالم ، التي حملت السّلاح ، و خاضت ضدّ أنظمة بلدانها ، حروبا لسنوات و سنوات ، تحت شعار ، محاربة الإقطاع و الاستبداد و الإمبريالية ؟


السؤال الرابع .. لأبناء "المجتمع المستفيد" من الجمهوريين والديموقراطيين :

فسّروا لنا - هداكم الله إلى الطّريق المستقيم - كيف أصبح الشّباب الفرنسي ، الذي قرّر حمل السّلاح ، و أعلن الثّورة على حاكم فرنسا الشّرعي [ الملك آنذاك ] ، بطلا و منقذا ، و نموذجا في العالم بـأسره ، بينما يكون غيره ، ممن حمل السلاح بحق ، متمرّدا ومجرما وإرهابيا .. أليس هذا كيلا بمكيالين !؟ بلى ، إنها لقسمة ضيزى ، وتخسيرللميزان .. وربّ عيسى المسيح ، ومحمّد البشير النّذير، صلوات ربي وسلامه عليهما في الأوّلين والآخرين .

الحقيقة التي ليس بعدها إلا الضّلال :

إنّ كلّ ما فعلته الصّهيونية بالإنسان ، فوق هذه الأرض ، من قتل و فساد و دمار، كان ينفّذ دائما ، باسم الدّين اليهودي ، والفكر النوراني .. وسيّدنا موسى عليه السلام ، و دين بني إسرائيل ، من الصهيونية براء .

إنّ الكوارث التي ارتكبها الصليبيون ، في حقّ الأمّة الإسلامية خاصّة ، و النّاس عامّة ، كانت تتمّ ، باسم الدّين المسيحي .. و سيّدنا عيسى عليه السلام ، و دين النّصارى ، من الصليبية براء .

إنّ الأعمال الوحشية ، التي تنفّذها تنظيمات مارقة مجنونة ، مثل تنظيم " الجيّا " المنحرف في الجزائر ، و داعش في العراق وبلاد الشّام ، و من سبقوهم عبر تاريخ الأمّة الطّويل .. كانت و مازالت تتمّ باسم الإسلام .. و سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم ، و دين المسلمين ، منهم براء .

إنّ الطّغاة والمستبدّين ، في جميع أنحاء العالم ، سجنوا وعذبوا وقتلوا وسلبوا وخرّبوا ودمّروا ، باسم حماية الدّولة ، والدّفاع عن مصلحة الشّعوب .. والشّعوب منهم ومن أفعالهم براء .

أمّا من حاربوا أو يحاربون ، دفاعا عن النّفس و المال و العرض ، أو حماية للدّين والهوية والأرض .. لا يقتلون أعزلا آمنا ، ولا شيخا كبيرا ، ولا طفلا صغيرا ، ولا امرأة ، ولا يأخذون مالا بغير حق ، ولا ينتهكون عرضا ولا يعتدون ، ولا يرتكبون تجاوزات ، إلا ما أكرهوا عليه ، أودعتهم الضرورة القاهرة لفعله ، بالقيود الشرعية .. أما هؤلاء فهم المقاتلون الشّرفاء ، حيثما كانوا وأنى وجدوا ، من عاش منهم كان من المجاهدين الأخيار، ومن قتل كان من الشّهداء الأبرار .. اللّهم اجعلنا منهم ، فقد علمت سرّنا ، وما انطوت عليه قلوبنا ، وعرفت قصدنا ، وما نويناه في كلّ أقوالنا و أفعالنا .. فإنّك تعلم خائنة الأعين وما تخفي الصّدور .. ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ۗ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ


يا أبناء شعبنا الجريح :

يجب أن تعلموا أنّ الأزمة القاسيّة ، و المحنة الداميّة ، الّتي مرّت بها الجزائر ، تختلف اختلافا كليا ، عن الصّراعات الدّامية ، الّتي تعصف ببعض الأوطان العربية الإسلاميّة اليوم ، لامن حيث الدّوافع و الأسباب ، أو الأطراف المتنازعة ، أو مجريات الأحداث و تسلسلها ..

لأن قضيتنا ليست عقائدية ، أو طائفية ، كلا ولم تكن أبدا ، مشكلة كفر وإيمان .. كما يدعي أهل الهجرة والتّكفير، ومن ذهب مذهبهم .. وإن كان الإيمان ، هو أصل عقيدتنا ، وسرّ حياتنا ، ونور قلوبنا وعقولنا ..

وهي ليست اجتماعية واقتصادية .. كما لم تكن أبدا ، مشكلة فقر وتهميش .. مثلما يفسّر ذلك أشباه الخبراء والمحلّلين .. وإن كان الفقر والتهميش ، أعداء لنا ، نحاربهم بالعمل والتضامن والعدل ..

وهي ليست مؤامرة خارجية .. ولم تكن أبدا ، مشكلة عمالة لجهات أجنبيّة .. كما يروّج لذلك التّيار الاستئصالي العميل .. وإن كان الأخطبوط الصّهيوني العالمي ، حاضرا بقوّة في أزمتنا ، عبر أدرعه الطويلة .. فرنسا ، وأمريكا ، ودولة اليهود .. ومن لفّ لفّهم ..

بل هي قضيّة حقّ وباطل .. وسببها سياسي صرف .. ذلك أنّ النّظام الحاكم في بلادنا ، وجّه دعوة رسمية لكلّ التّيارات السياسية في الجزائر ، للخروج من العمل السّري .. والدخول في الشّرعية ، والنّشاط علنا في إطار أحزاب ، تخضع للقانون وتتحرّك في إطار الدّستور .. فصدّقناه ولبّينا الدّعوة ، واحترمنا القوانين التي سطّرها ، والقواعد التي وضعها .. فلمّا انحاز الشّعب إلى صفّنا .. ووضع ثقته فينا .. وسلّمنا مقاليد الحكم بكل سيادة وديمقراطية .. داسوا على هذه القوانين ، وتنكّروا لتلك القواعد ، وانقلبوا علينا جهارا نهارا ، أمام أنظار كل شعوب العالم ، الذين كانوا أكبر شاهد عيان ، على خطيئة الانقلابيين المنكرة ، وفعلهم الشنيع .. فكان النظام الحاكم بهذا ، هو المسؤول عن الأزمة ، وهو المسؤول عن كل الأخطاء ، التي وقع فيها غيره لاحقا ، ومنها أخطاء رجال الجبهة الإسلامية ، الصادقين مع ربهم ، المحبين لوطنهم .. لأن كل ماأصاب الجزائر بعد ذلك ، جاء كنتيجة طبيعيّة ، للتصرف الأرعن ، الذي قام به رؤوس التيار الاستئصالي الحاقد .. أما ما وقعت فيه ، بعض الفلول الإجرامية التّابعة للنّظام ، من انتهاكات وتجاوزات خطيرة ، وكذلك مافعلته بعض الجماعات المسلحة ، التي لادين لها ولاخلاق ، من مجازر وماشابهها .. أما هذا ، فنحن منه براء ، براءة الذئب ، من دم يوسف بن يعقوب عليهما السّلام ..

وإذن ، فمهما نعق النّاعقون بالأباطيل .. ونبح النبّاحون بالأراجيف .. وزوّر المزوّرون بالافتراءات .. فإنّ الحقيقة تبقى ساطعة ، كالشّمس في كبد السّماء ، لا يستطيع طمسها ، طاغية جبّار أومجرم قتّال .. أويعكّر صفوها ، خائن غدّار أومتقوّل دجّال .. جفت الاقلام وطويت الصحف .

﴿ مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا


يا أبناء الجبهة الصادقين ، ورجال الجيش المخلصين :

لقد سبق وحدّدنا ثلاثة أهداف رئيسية ، تضمّنها البيان الرسمي المؤرّخ في 2013 .

والتي كانت كالتالي :

الهدف الأوّل : الدفاع عن أبناء الجيش الإسلامي للإنقاذ ، وكل من ساعدهم أو وقف إلى جانبهم ..

الهدف الثاني : الرجوع إلى العمل الدعوي الإصلاحي ..

الهدف الثالث : إنشاء جمعية تربوية خيرية واجتماعية بأبعاد سياسية ..

أمّا الهدف الأول : فقد قطعنا بعون الله وتوفيقه ، خطوات معتبرة ، على طريق الوصول إلى الغاية النهائية .. خاصة بعدما قرّر الرئيس أخيرا ، أن يشركنا علنا ، في النّقاش السياسي حول الدّستور ، وتمّت دعوتنا رسميا إلى رئاسة الجمهورية .. كما تفضّل الأخ أحمد أويحيى ، المكلّف بالمشاورات ، بالتأكيد في ندوته الصّحفية ، على مساهمتنا الكبيرة ، في عودة الأمن والاستقرار ، وحقّنا في تقديم رؤيتنا ، لمضمون الدّستور المرتقب ..

وهذه الخطوة وإن جاءت متأخرة ، فقد أعادت قطار المصالحة الوطنية ، إلى السكّة الصحيحة بنسبة لابأس لها .

وأما الهدف الثاني : فهو خيار رباني استراتيجي لا رجعة فيه ، إذ أنّ حياة المؤمن كلها ، مبنية على أساسه ، لكن من الضّروري أن نعلم جميعا ، بأنّ الوصول إلى بناء تنظيم دعوي كبير ، يحتاج إلى الوقت والجهد والمثابرة والصّبر، ونحن بعون الله وتوفيقه ، مستمرون في هذا الطريق ، إلى آخر رمق من حياتنا .. نسأل الله الثبات والسداد والرشاد .

وأما الهدف الثالث : فقد كنّا نعتزم ، تقديم أوراق اعتماد الجمعيّة ، بعد تعديل الدّستور مباشرة .. غير أن طارئين طرءا ، دفعانا إلى إعادة النّظر في أولوياتنا ، وترتيب أهدافنا ..

الأول : هو تعديل الدّستور ، الذي تأخّر كثيرا عن أجله .. وقد كان منتظرا نهاية سنة 2014 على أكثر تقدير..

الثاني وهو الأهمّ : بعدما قطعت الجزائر شوطا كبيرا ، على طريق الصّلح ، واسترجاع الأمن والاستقرار ، بفضل الله سبحانه و تعالى أولا : الذي نظر إلى الجزائر بعين الرّحمة ، وأنزل سكينته على شعبها ، و ملأ قلوب الجزائريين ، بالطّمأنينة و التّسامح و الإخاء ..

ثم بصبر الشعب الجزائري ثانيا : الذي تحمّل أعباء الأزمة ، ومصائب المحنة كاملة .. فأحصى شهداءه عددا .. و ضيع أمواله بددا .. و تجرّع آلامه لـُبدا ..

ثم بجهد وإرادة ، قادة الجيش الوطني الشعبي و الجيش الإسلامي للإنقاذ ثالثا : الذين قرّروا التّحاور و الـتّعاون ، و العمل سويّا على وقف نزيف الدّماء ، مهما كان الثمن .. فكانت الهدنة المباركة ، التي جاء على إثرها ، مشروع الوئام المدني و المصالحة الوطنية ..

ثم بإصرار الرئيس عبد العزيز بوتفليقة رابعا : الذي كان جريئا و شجاعا ، و أعطى الغطاء السياسي ، و المرتكز القانوني ، لإتفاق الهدنة وتوقيف القتال ، الذي تمّ بين الرجال والرجال ، فكان بحقّ ، الأب السياسي القانوني ، لمشروع المصالحة و الوئام ...

ولا ننسى الرئيس اليمين زروال ، الذي كان سبّاقا ، إلى فتح الحوار مع جميع الأطراف ، واتّخذ قرارا شجاعا ، بذهابه إلى سجن البليدة ، ومحاورة قيادة الجبهة الإسلامية ، لكنه ومع الأسف ، لم يفلح في تحقيق السلم المنتظر.. وأقصى ما وصل إليه ، قانون الرّحمة الذي أصدره .. والذي لم يكن في نظرنا ، خطوة صحيحة على طريق الصلح ، ووقف إراقة الدماء ، بقدر ماكان خطوة مغرضة ، لخدمة التّيار الإستئصالي الانقلابي ، وضرب التّيار الإسلامي الشّرعي ، الفائز في الانتخابات .. فضلا على أنه ، صورة طبق الأصل ، لما فعلته فرنسا مع آبآئنا المجاهدين ، بغرض تشتيت صفوفهم ، والقضاء عليهم .

قلت .. فبعدما قطعت الجزائر، كل هذه الخطوات الجبّارة .. وقرّر شعبها نهائيا .. أن يعيش في أمان وسلام .. وفضل طريق الحوار و المصالحة و الوئام .. و ترك القتال و المجابهة و الخصام .. و صاح بالفم المليان .. نعم للتـصالح .. نعم للتّعاون .. نعم للتّنافس ، بالعمل و البرامج و الكلام .. لا للشّقاق ، لا للفوضى ، لا للصّدام .. بركات .. بركات .. بركات ..

بعد كل هذا .. ارتفعت أصوات نشاز، ونباح مسعور، لأشباه السياسيين ، وبعض الأبواق الإعلامية المأجورة ، يستغربون دعوتنا إلى الرئاسة ، ويستكثرون علينا ذلك .. بل ذهبت بهم الوقاحة ، إلى وصفنا بالإرهابيين والتّائبين ، الذين لا حقّ لهم في العمل السياسي ، أو التّكلم في الشّأن العام .. فيالسفاهة عقولهم وصغرها ، ويا لخسّة نفوسهم و حقارتها .. ومع الأسف ، فإن أغلب هؤلاء ينتسبون إلى المعارضة ، يرفعون زورا وبهتانا ، شعارات الديموقراطية وحرية التعبير ، ويدّعون كذبا ونفاقا ، محاربة الإقصاء والتهميش .. أما رجال المعارضة الشرفاء الذين يحترمون غيرهم ، فنحن نحترمهم ونقدر مواقفهم ونضالهم .

لقد استكثروا في حقنا هذه المشاركة .. نحن الذين وقفنا في وجه النّظام الظّالم ، دفاعا عن اختيار الشّعب السيّد ، لمّا ركن هؤلاء الجبناء إلى الذين ظلموا ، وباعوا دينهم وضمائرهم ، بعرض من الدّنيا قليل ، مناصب معدودة ، ومكانة سياسية مغشوشة ، أخذوها رشوة على حسابنا وفوق ظهورنا .. نحن الذين قاتلنا دفاعا عن النفس والدين والعرض .. نحن الذين سخّرنا أغلى ما لدينا ، حياتنا ، أهلنا ، مالنا ، في سبيل الله ، خدمة للحقّ ودفاعا عن القضيّة .. نحن الذين وقفنا في وجه القتلة والدّمويين ، وصائدي الجوائز، من جميع الأطراف ، وقدّمنا الحماية للشّعب الأعزل قدر استطاعتنا .. نحن الذين واجهنا المجانين من أصحاب الفكر العدمي ، وأوقفنا زحفهم ، ومجازرهم واعتداءاتهم .. نحن الذين حاورنا وصالحنا .. وفعلنا المستحيل لإعادة الأمن ، وتحقيق الأمان ، وبسط السلام .. نعم ، لا ننكر أننا تعاوننا في تحقيق كل هذا ، مع الخيّرين في شتى مواقعهم ، فنحن لانبخس الناس أشياءهم .. لكن دورنا ، كان ظاهرا لايخفى ، ومعلوما لا يجهل ، ومعروفا لا ينكر ، وهو كبير ، لايعمى عن رأيته إلا حقود أوحسود .. فلانامت أعين الحاقدين والحاسدين ، ولاهدأت نفوس السفهاء والمرجفين ، حتى يتوبوا ويعودوا إلى الصواب ، فيعترفوا لأصحاب الحق بحقهم ، ويشهدوا لأهل الفضل بفضلهم .

لهذا قررنا ، أن نمضي إلى تأسيس حزب سياسي أولا ، نثبت به حق ، كل الذين حرموا ومنعوا ، ظلما وعدوانا ، من ممارسة السياسة ، والدفاع عن المشروع المجتمعي الذي يؤمنون به .. ثم يتفرّغ منّا بعد ذلك ، رجال الدعوة و الإصلاح ، لإتمام وترسيم ، التّنظيم الدّعوي الكبير ، الذي سيكون إن شاء الله تعالى ، للجزائريين جميعا ، يقف على مسافة واحدة منهم ، مهما اختلفت آراؤهم ، يعاملهم بالحسنى وينصح لهم ، ويدعوهم إلى صراط الله المستقيم..

لذلك رأينا ، أن نستأنف حملتنا التّوعويّة ، إنطلاقا من هذا الشّهر الكريم .. ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ

شهر ، أوّله رحمة .. وأوسطه مغفرة .. وآخره عتق من النّار..

شهر ، تفتح فيه أبواب الجنّة .. وتغلق فيه أبواب النّار.. وتصفّد فيه الشّياطين ..

فعلى كل واحد منّا إذا ، أن يتطهّر ويتحرّر ..

يتطهّر، من أوساخ الدّنيا ومعاصيها .. ويتحرّر ، من وساوس النّفس وأغلال الشّيطان .. ويُقبل صادقا مخلصا ، على الصّلاة والصّيام والقيّام .. وكثرة الذّكر وتلاوة القرآن .. وفعل الخيرات وعمل الصالحات ..

فا " لدّنيا ملعونة ، ملعون مافيها ، إلاّ ذكر الله وما والاه ، أو عالم و متعلّم " هكذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم..

ومن خلال تنظيم ، الإفطارات الجماعيّة في رمضان ، وبعدها المخيّمات الصّيفيّة ، في مختلف أنحاء الوطن .. نكون قد فتحنا الطّريق ، للذّهاب إلى مؤتمر تمهيدي تأسيسي ، يسمح لنا بتقديم أوراق الاعتماد .. وعلى إثرها ، ننطلق في إعادة الهيكلة الموسعة إلى مختلف الشّرائح ، والتّوجه إلى مؤتمرجامع ، نُشرك فيه كل من له علاقة بمشروعنا الوطني الإسلامي الكبير ، إلاّ من أبى .. ومن أبى ، فقد برّأنا وأقام الحجّة على نفسه..

نعم.. يجب أن نقطع الطريق على الذين يصطادون في المياه العكرة .. يجب أن نُسكت الأبواق الناعقة ، ونقطع ألسنة السّوء حيث ما وجدت .. يجب أن نعيد الأمور إلى نصابها ، والحقوق إلى أصحابها .. يجب أن نفعل هذا ، في إطار الدستور، واحترام القانون .. والدفاع عن الوطن بصدق ، وخدمة الشعب بحق .. ونرفع شأن الأمة عاليا بإذن الله العلي القدير .

نعم يارجال الحق ودعاة الصدق ، وأمل الضعفاء ورهان الشرفاء .. لقد عزمنا عزما ، لم يبق بعده ، إلا التّوكل على الله .. فهل أنتم مستعدّون لرفع التّحدي .. وتحقيق مايراه غيركم مستحيلا ..

أم تقولون ما قال أصحاب موسى لموسى – عليه السلام - .. ﴿ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ، ولست بموسى ، ولا أنتم أصحابه ..

إنّما نحن إخوة ، اجتمعنا على طاعة الله ورضاه .. و نصرة دينه ، و اتّباع رسوله و هداه ..

مبدؤنا في ذلك ، قول الله تعالى ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ

و شعارنا : ننصر الحقّ بالحقّ .. و ندور مع الحقّ حيث دار ..

﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾

بالحمد و الشّكر لله وحده .. بدأنا الكتاب

و بالصّلاة و السّلام على من لا نبيّ بعده .. نُنهي الخطاب

﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا .

اللهم صلّ على محمّد و على آل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك وسلّم على محمّد وعلى آل محمّد ،كما باركت و سلّمت على إبراهيم و على آل إبراهيم ، في العالمين إنّك حميد مجيد .

الأربعاء 21 رمضان 1436 هـ أخوكم ومحبكم

الموافق لـ 08 جويلية 2015 مـ مدنى مزراق